بلد العميان .. قصة البصر والبصيرة
“بلد العميان” للروائي والكاتب البريطاني “هربرت جورج ويلز”، الذي توفي عام 1946، رواية قصيرة تعد من الأعمال الشهيرة جدًا، لعل نجاحها بسبب ما فيها من مغزى عميق وإلهام للقراء، كما أن فكرتها تمس حياة الناس كلهم على كوكب الأرض، وهي تقول إن الحق سوف ينهزم أمام الباطل إن لم يجد من ينصره.
بالتالي ستشعر أن ما في الرواية من قيمة هي إسقاط على معظم ما يدور حولنا، في حياتنا الحالية على المستوى المحلي والعالمي والسياسي والاجتماعي وغيره.
دائمًا نرى الشر ينتصر على الخير، والكذب على الصدق، والباطل على الحق، ويفوز أصحاب السبل المعوجة على الشرفاء، مما يعمق مشاعر الإحباط عند الناس، وبالذات عند الأجيال الجديدة التي كان يملؤها الأمل فلم تجد سوى خيبة الأمل.
في بلد العميان يصبح الأعور ملكاً
رواية تعبر عن مأساة صاحب الوعي في محيط جاهل وصاحب العقل في مجتمع مجنون، والمبصر الوحيد في بلد العميان، أن تجد أن عليك الاختيار بين قيمك التي عشت من أجلها وتربيت عليها وناضلت لتنصرها، وبين قيم المجتمع المريض الذي سيطردك إن لم تسايره ويحاربك إن لم توافقه.
لتجد فجأة أن عقلك قد صار حاجزًا بينك وبين الناس والبيئة التي أنت فيها، حين ترى الأغبياء والجهلاء ينظرون إليك ساخرين مستهزئين قائلين: “ها هو الرجل المريض، اذهب لتعالج نفسك يا رجل وإلا فلا مكان لك بيننا!”، أو تطل امرأة جاهلة من شرفتها لتصيح في الناس وهي تشير بإصبعها نحوك: “انظروا لقد جاء الخائن المجنون، ابتعد من هنا يا جبان!”.
سوف تتعجب، هؤلاء القوم لهم أعين مثلي فلماذا هم عميان؟ لماذا يرون كل شيء على عكس حقيقته؟ لكن السؤال سيعود إليك صداه بلا جواب ولا فكاك، لتجد أنك إما أن تستسلم للعمى فتصبح مثلهم أو تظل مطاردًا طول العمر.
اقرأ أيضاً: الأعمى ومبتور الذراعين!
قصة بلد العميان
تقع أحداث القصة في زمن استفحال طغيان الإسبان واشتداد جرائمهم في بيرو، إذ هرب مجموعة من المهاجرين بأرواحهم عبر جبال الإنديز، لكن حدثت انهيارات صخرية في الجبال تسببت في عزلهم في وادٍ بعيد عن بقية العالم، ثم انتشر فيهم مرضٌ غريب أصابهم جميعًا بالعمى، فاعتقدوا أن ذلك بسبب عقاب إلهي لهم على ما ارتكبوه من جرائم.
عاشوا في ذلك الوادي البعيد يتوارثون العمى، ثم ظهر المستكشف البريطاني نيونز، خبير تسلق الجبال الذي كان في رحلة علمية مع مجموعة من الرفاق، ولحظه العاثر سقط من أعلى الجبل إلى ذلك الوادي المعزول وادي العميان.
ظن أصحابه أنه مات فتركوه، فلم يكونوا على علم بوجود وادي العميان في الأسفل، لكن الذي حدث في الحقيقة أن صاحبهم سقط على وسادة من الثلج أنقذت حياته، فمشى في ذلك الوادي، فرأى مدينة عجيبة المباني، وألوان بيوتها فوضوية، وليس فيها ولا نافذة فتعجب من ذلك.
سرعان ما اكتشف أن كل أهلها عميان، فأخذ يخبرهم عن نفسه وبلاده التي جاء منها، وأن الناس في الخارج مبصرون، لكنهم وقد توارثوا العمى لم يعودوا يعرفون معنى البصر ومعنى كلمة مبصرون، فحاول بلا طائل أن يشرح لهم ذلك، فحدثهم عن الدنيا البديعة وجمال ألوانها فلم يفهموا أي شيء لأنهم لم يروا شيئًا، فاتهموه بالجنون.
نهاية القصة
ضاعت كل جهوده هباء وهو يحاول أن يقنعهم بصدقه، وبأنه يعلم ما لا يعلمون ويرى ما لا يرون، فاشتدت كراهيتهم له ونبذوه، لأنه يعكر عليهم هدوء حياتهم بهذا الكلام الذي يصعب عليهم استيعاب معانيه.
قرر أن يحاول الهرب رغم علمه بصعوبة المحاولة، وعندما فشل عاد إليهم وهو مضطر لإنكار كل ما قاله عن البصر حتى يسمحوا له بالعيش بينهم، فصفحوا عنه بعد أن قاموا بجلده لأنه في نظرهم كاذب، ثم كلفوه ببعض الأعمال ليرتزق منها.
عندما وقع في حب فتاة عمياء جميلة منهم وأراد أن يتزوجها، اشترطوا عليه أن يتخلص من الشيء الغريب في وجهه أولًا ليوافقوا على تزويجه، ويقصدون بذلك عينيه فرفض وقاومهم بشدة، لكن الفتاة التي أحبته بكت وترجته أن يوافق على طلبهم حتى يجتمع شملهما معًا.
صار عليه الاختيار بين حبه وعينيه، فكاد أن يوافقهم على فقأ عينيه، لولا أن نظر نظرة أخيرة إلى الأنهار والأشجار والجبال ليودعها للمرة الأخيرة قبل العمى، فتغلب عليه حب الحياة وحب النور والبصر والمعرفة، ليقرر الهرب للمرة الأخيرة، وقد نجح هذه المرة فتخلص من العميان ومدينتهم.
العبرة من قصة بلد العميان
بالتأكيد الرواية لا تتحدث عن عمى العيون، بل عن عمى النفوس والعقول والقلوب، عن “الجهل” والتخلف الفكري الذي يحوّل الناس إلى مخلوقات حاقدة مذعنة يائسة عاجزة.
قد يلخص بيت شهير واحد من شعر المتنبي هذه القصة فيقول:
ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِهِ وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ
ويقول المثل الإسباني: “العينان لا تفيدان عقلًا أعمى”.
التشابه في المعنى بين قصة زرقاء اليمامة وقصة بلد العميان
معروف أن زرقاء اليمامة شخصية فتاة عربية من أهل اليمامة، عاشت قبل الإسلام وكانت مضرب المثل في حدِّة النظر، لدرجة أنها تبصر الأشياء من مسيرة ثلاثة أيام، فأنذرت قومها بأن جيوش العدو قادمة إليهم مستترة بالأشجار، فهي ترى الأشجار تتحرك!
سخروا منها ولم يصدقوها واتهموها بالخرف، فتركتهم لشأنهم حتى غزاهم العدو وهم نيام وقضى عليهم، هي أيضًا قصة المبصر والعميان لكن برواية مختلفة.
لقد عبر الشاعر الراحل الكبير أمل دنقل عن هذه الفكرة في قصيدته الشهيرة “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة”، يقصد ندم عميان البصيرة بين يدي المبصرين، ومما قاله أمل في هذه القصيدة الخالدة:
قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ..
فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار
قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار..
فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار
وحين فُوجئوا بحدِّ السيف: قايضوا بنا..
والتمسوا النجاةَ والفرار
ونحن جرحى القلبِ..
جرحى الروحِ والفم..
لم يبق إلا الموتُ..
والحطامُ..
والدمارْ”.
الأعمى أعمى البصيرة لا البصر
فالأعمى ليس أعمى البصر بل أعمى البصيرة، والأعمى مَن أعماهُ الجهل والحقد والحسد والتعصب المقيت، وليس الأعمى من لا يبصر، بل من لا يشعر بما يبصر ولا يفكر فيه ويفهمه، تقول الشاعرة مي زيادة: “لا تلمس الحق البسيط الجلي إلا النفس البصيرة الرفيعة”.
يقول ابن عطاء: “البصر له الكشف والبصيرة لها الحكم”.
ختامًا: “فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)”، سورة الحج.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا