مقالات

برمجة الحمار: بوريدان ومُعضلة الاختيار – الجزء الأول

تخيل حمارًا يمشي وحيدًا مُنهكًا بعد أن قضى وقتًا طويلًا بحثًا عن الطعام، وفجأة وجد أمامه كومتين متطابقتين من التبن اللذيذ على مسافتين متساويتين من موضعه، واحدة على اليمين وأخرى على اليسار.

من المفترض وقتئذٍ أن ينكب الحمار على إحدى الكومتين إشباعًا لجوعه، لكنه يقف حائرًا: أي الكومتين يختار؟ أو بأي منهما يبدأ إن قرَّر تناول كليهما؟ ولا يجد الحمار المسكين سببًا وجيهًا لتفضيل إحداهما على الأخرى، ويمضي الوقت، ويزداد الحمار جوعًا حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة عاجزًا عن اتخاذ قرار عقلاني يُسوغ له اختيار إحدى الكومتين!

مفهوم الإرادة الحرة

تُعرف هذه التجربة الفكرية التي كانت وما زالت تُمثل لغزًا فلسفيًا باسم «حمار بوريدان» Buridan’s ass، نسبة إلى الكاهن والفيلسوف الفرنسي «جان بوريدان» Johannes (Jean) Buridanus الذي عاش في القرن الرابع عشر (وربما تُنسب إلى منتقديه)، حيث كان مُهتمًا بمفهوم الإرادة الحرة، وذهب إلى أن السلوك البشري يتسم بالحتمية، وأن كل شيء يحدث أو يقوم به المرء إنما هو محكوم بسببٍ ما،

لكنه أدرك وجود مشكلة في المواقف التي لا يوجد فيها سبب لتفضيل خيار على آخر، ففي حالة الحُكم على شيئين متكافئين ومتماثلين تمامًا، لن تتمكن الإرادة من كسر الجمود، كل ما يُمكنها فعله هو تعليق الحُكم حتى تتغير الظروف وتكون مبررات الحُكم واضحة.

وبعبارة أخرى، لقد مات الحمار لأنه بلا إرادة، وحتى لو اتجه عشوائيًا إلى إحدى الكومتين فسوف يكون مدفوعًا فقط بحدسه الحي، حيث لا توجد طريقة عقلانية لاختيار بديل على الآخر، وبالتالي ينتفي أيضًا مفهوم الإرادة الحرة!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تاريخيًا ترجع المفارقة في إحدى صورها المماثلة إلى «أرسطو»، الذي انتقد في كتابه «في السماوات» On the Heavens الفكرة السفسطائية القائلة بأن الأرض ثابتة لمجرد أنها كروية، وأن أية قوى تؤثر عليها لا بد أن تكون متساوية في جميع الاتجاهات، وهي الفكرة التي عبَّرت عنها فيما بعد قوانين نيوتن في الحركة: «إذا كانت القوى متساوية في كل اتجاه، فسيظل الجسم ثابتًا».

وعلى سبيل السُخرية من الفكرة ضرب «أرسطو» مثلًا بالرجل الذي يُعاني من الجوع والعطش، ثم يجد نفسه فجأة على مسافتين متساويتين من الطعام والماء، لكنه يظل ساكنًا في مكانه دون حراك، ويتضور جوعًا وعطشًا ثم يموت لمجرد أنه لا يستطيع أن يُقرر أيهما يجب تناوله أولًا! كذلك ناقش الإمام «أبو حامد الغزالي» حُجة مماثلة في القرن الثاني عشر،

متسائلًا عما إذا كان من الممكن الاختيار بين شيئين على قدم المساواة دون أسباب مُقنعة للتفضيل، واتخذ موقفًا مفاده أن الإرادة الحرة بإمكانها أن تكسر جمود لحظة الاختيار، وهو ما عبر عنه في تهافت الفلاسفة بقوله: «وفي حق الإنسان فإنه إذا كانت بين يديه تمرتين متساويتين يأخذ إحداهما.

على أنه في حقنا لا نسلم أن ذلك غير متصور، فإنا نفرض تمرتين متساويتين بين يدي المتشوف إليهما العاجز عن تناولهما جميعًا، فإنه يأخذ إحداهما لا محالة بصفة شأنها تخصيص الشيء عن مثله»، وقد عارض «ابن رشد» هذا الموقف في معرض رده على «الغزالي»!

مبدأ بوريدان

على أن ثمة أبعادًا أخرى لهذه المُعضلة دفعت بها إلى ساحة المناقشات العلمية والفلسفية في عالمنا المُعاصر. تخيل مثلًا طبيبًا يجتهد في تشخيص حالة مريضٍ ما وفقًا لقائمة كبيرة من الاحتمالات، حتى بلغ مرحلةً يكون فيها احتمال الإصابة بفيروسين مختلفين متكافئًا في جميع القياسات المُمكنة، لكن الأدوية التي تُعالج واحدًا منهما يمكن أن تكون قاتلة لمن هو غير مُصاب به.

كيف يتخذ الطبيب إذن قرارًا بشأن كيفية علاج المريض؟ هل يعمد إلى التحيز التعسفي غير العقلاني تجاه قرارٍ بعينه مثلما قد يفعل الحمار الحقيقي؟ أم يعمد إلى لُعبة الحظ باستخدام العُملة المعدنية؟ أم يقف عاجزًا ويترك المريض يموت دون تشخيص؟

في الممارسة العملية، يلجأ الأطباء إزاء مثل هذه المعضلة إلى المزيد والمزيد من الفحوص والاختبارات والاستشارات، وبالتالي فإن فرصة حدوث هذا الموقف تصبح ضئيلة. لكنها ليست مستحيلة!

تتجلى المشكلة بشكلٍ آخر مماثل في عالم البرمجة الحاسوبية، وهو ما ناقشه –على سبيل المثال– عالم الحاسوب الأمريكي (الفائز بجائزة تورينج Turing Award سنة 2013) «ليسلي لامبورت» Leslie Lamport (من مواليد 1941) في إحدى أوراقه البحثية، منطلقًا من مشكلة شائعة نتعرض لها جميعًا في حياتنا اليومية وتسبب كثرة من الحوادث المرورية، إذ وجد نفسه ذات مرة أثناء قيادته لسيارته غير قادرٍ على أن يقرر لجزء من الثانية ما إذا كان سيتوقف عند إشارة مرور تحولت إلى اللون الأصفر أو يواصل السير.

ولاحظ «ليسلي» أن شيئًا مشابهًا قد يحدث في الهندسة الكهربائية، فلو افترضنا مثلًا أن الإشارة التماثلية Analog signal (وهي إشارة مستمرة تمثل فيها الكمية المتغيرة بمرور الوقت متغيرًا آخر قائمًا على الوقت) تتغير باستمرار بين القيمتين (10) و(20)، ويجب من ثم أن تتحول إلى «بت رقمي» Digital bit (وهو الوحدة الأساسية لكمية المعلومات في الحاسوب والاتصالات الرقمية، ويمكن أن تحتوي على واحدة فقط من القيمتين: الصفر أو الواحد)، بحيث أن أية إشارة أقل من (15) يتم تحويلها إلى صفر، وأية إشارة أعلى من (15) يتم تحويلها إلى واحد.

ماذا إذن لو كانت الإشارة (15) بالضبط؟ وقتئذٍ سيتوقف الحاسوب غير قادر على اتخاذ القرار، على الأقل حتى تدفع الضوضاء العشوائية الإشارة إلى جانبٍ بعينه لكسر الجمود! وعلى هذا النحو، لو قمنا ببرمجة «حمار بوريدان» فسوف يظل عالقًا بين الصفر والواحد، غير قادر على أن يتحرك تجاه أي منهما لفترة زمنية قد تكون كافية لموته!

كتب «ليسلي» ورقته البحثية تحت عنوان «مبدأ بوريدان» Buridan’s Principle، ونشرها في أكتوبر سنة 1984 بمجلة «أسس الفيزياء»Foundations of Physics، بعد أن رفضت مجلتا «ساينس» Science و«نيتشر» Nature (أعلى المجلات العلمية تأثيرًا) نشرها لسببٍ غير مُقنع، هو أن هذه المشكلة لم تُواجه علماء الحاسوب من قبل، ولو وُجدت لكانوا على دراية بها، حتى لقد كتب أحد المراجعين: «أنا خبير حاسوب، ولا أعرف شيئًا عن مثل هذه المشكلة، لذلك يجب ألا تكون موجودة»!

إشكالية برمجة الحمار

من المؤكد أن المريض الذي عجز الطبيب عن تشخيص مرضه بدقة لن يكون سعيدًا بالقرار العشوائي الناجم عن برمجة الحمار، ولن يكون الطبيب بالمثل سعيدًا بالاعتراف بأن أي قرار عشوائي يتخذه إنما يرجع إلى كونه مسلوب الإرادة، ومع ذلك تظل المفارقة قائمة ومؤرقة، فوفقًا لمبدأ السبب الكافيSufficient Reason الذي قال به «ليبنتز» Leibnitz: «لا شيء يحدث دون سبب»،

ومن المؤكد أن الشخص العقلاني الذي يتخذ قرارًا لسببٍ ما يتمتع بالإرادة الحرة، وحين يعجز عن إيجاد سببٍ منطقي لاختيار أحد البدائل يكون مسلوب الإرادة، ومع ذلك كلما كان هناك سبب لاتخاذ قرار ما، فإن الإرادة الحرة غير مطلوبة، لأن الأمر يبدو ميكانيكيًا بحتًا وفقًا لقانون السبب الكافي، وهكذا نجد أنفسنا في كلتا الحالتين أمام إشكالية برمجة الحمار، غير قادرين على إثبات أو نفي وجود الإرادة الحرة!

يتبع

اقرأ أيضاً:

معضلة الوحيد

ما بين العقل والإرادة

القواعد الذهبية في سياسة عنترة بن شداد

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية