مقالات

براديغما المجتمعات في عالم اليوم!

حراك المجتمعات

لا يخفى على المتابع للشأن الاجتماعي في الفترة السابقة على طوفان الحراك الذي أصاب منطقتنا ككل، حجم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية  التي كان يعاني منها مجتمعنا وأمتنا بشكل عام، والتي كانت بدورها واحدة من أهم أسباب حراك المجتمعات في هذه المرحلة وما تلتها من تحولات كبرى فى فترة زمنية قليلة و حتى وقتنا هذا.

وبنظرة أكثر عمقا لفهم هذا الواقع لا بد من ربط واقعنا الاجتماعي بالمحيط الإقليمي والدولي وذلك لمدى التأثير والتأثر الذي نعيشه الآن نتيجة سياسات العولمة التي تخطت مجرد البيئة التي ظهرت فيها أو مجالها الاقتصادي فقط؛ ذلك أن العولمة  تتجاوز الممارسات إلى الرؤية الشاملة عن الإنسان والإله والطبيعة وهذا ليس مجال بحثنا، إنما أوردنا هذه المقدمة للتدليل على أن ما حدث وسيحدث في مجتمعنا ليس بمعزل عن تأثير السياسات الخارجية والأفكار المادية التي اجتاحت العالم كله تقريبا.

تبعية المجتمعات

وعليه فتعتبر الحالة الأكثر وضوحا وتأثيرا فى مجتمعنا هي «التبعية» بما تحمله هذه الكلمة من مضامين مختلفة سواء اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية والتي بدورها تؤثر بشكل كبير على نوعية البناء الاجتماعي لأى مجتمع يعاني منها؛ ذلك لأنها تقدم البديل للثوابت المجتمعية ثقافية كانت أو اقتصادية أو حتى اجتماعية؛ لأن المجتمعات التابعة هي مجتمعات مستهلكة وليست منتجة ولا نقصد هنا الاستهلاك الاقتصادي فقط وإنما الاستهلاك بشكل كلي الذي يبدأ من نمط المعيشة وانتهاء بنوعية العلاقات التي تحدد المعاملات بين أجزاء البناء الاجتماعي كله.

محاولة الفهم

ينتهي تورين في مؤلفه «براديغما جديدة لفهم عالم اليوم» إلى خلاصات أساسية تساعد في فهم طبيعة التحول في المجتمعات المعاصرة.

1- نقطة الانطلاق هي العولمة، التي ليست في عرفنا عولمة الإنتاج والتبادلات وحسب، بل هي شكل متطرف من أشكال الرأسمالية، بنوع خاص، يقوم على الفصل التام بين الاقتصاد وسائر المؤسسات التي لا يسعها ضبطها والتحكم بها، لا سيما الاجتماعية منها والسياسية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

2- زوال الحدود هنا، من كل نوع، يجر إلى تفتيت ما كان يسمى مجتمعا.

3- الانهيار المتلاحق لمقولات التحليل والعمل الاجتماعية ليس حدثًا غير مسبوق، فقد كنا في بداية الحداثة نتمثل الواقعات الاجتماعية ونعبر عنها بمصطلحات سياسية: كالنظام والفوضى والسيادة والسلطة والدولة والثورة. لم نستبدل بهذه المصطلحات السياسية -إلا بعد الثورة الصناعية- مصطلحات أخرى اقتصادية اجتماعية: كالطبقات والكسب والتنافس والتوظيف والمفاوضات الجماعية، لكن التغيرات الراهنة هي من العمق بحيث تقودنا إلى التأكيد أن براديغما جديدة هي في صدد الحلول مكان البراديغما الاجتماعية، كما حلّت هذه الأخيرة محل البراديغما السياسية.

الأنانية المفرطة

4- إن وقوف الفردانية منتصرة على أنقاض التصور الاجتماعي لوجودنا، يظهر هشاشة «أنا» تتبدل باستمرار بفعل ما تخضع له من مؤثرات. وإن تفسيرًا أكثر تأنيًا لهذه الحقيقة من شأنه أن يركز على دور وسائل الإعلام في تكوين هذه الأنا الفردية التي تبدو وحدتها واستقلالها مهددتين.

5- على أن لهذه الفردانية بعدًا آخر، ألا وهو أننا في مجتمع نخضع فيه لا لتقنيات الإنتاج وحسب، بل لتقنيات الاستهلاك والتواصل، أيضًا نسعى إلى إنقاذ وجودنا الفردي المميز. وهو ازدواج خلاق يلد، إلى جانب الكائن الإمبريقي، كائنًا حقوقيًا يعمل على تكوين ذاته، فاعلا حرا عبر نضاله من أجل نيل حقوقه.

6- لقد كان لدينا صورة عن قدراتنا الخلاقة على الدوام، لكن لطالما كان يتم إسقاط هذه الصورة ما وراء تجربتنا الخاصة. لقد اتخذت وجوهًا متتالية هي: الله، والدولة، والتقدم، والمجتمع اللاطبقي. أما اليوم فإننا مباشرة وبدون خطاب وسيط، نولي البحث عن ذواتنا أهمية مركزية. وإرادة الفرد هذه هي الذات الفاعلة.

7- إن وجود الذات الفاعلة كمبدأ تحليلي مشروط بشمول طبيعتها، فهي كالحداثة، تقوم على مبدأين أساسيين: اعتناق الفكر العقلاني (والمقصود هنا التجريبي)، واحترام الحقوق الفردية الشاملة، تلك التي تتخطى جميع الفئات الاجتماعية الخاصة. وقد تجسدت الذات الفاعلة أول ما تجسدت تاريخيًا في فكرة المواطنية التي فرضت احترام الحقوق السياسية الشاملة بغض النظر عن كل الانتماءات الطائفية. وأحد التعابير المهمة عن هذا الفصل بين المواطنية والطوائف هي العلمانية التي تفصل الدولة عن الكنائس.

حرمان الأفراد وحراك المجتمعات

8- لقد كان النضال من أجل الحقوق الاجتماعية قائمًا في صميم الحياة الاجتماعية والسياسية خلال الفترة التي كانت فيها البراديغما الاجتماعية مسيطرة، أما اليوم فقيام البراديغما الثقافية، يضع المطالبة بالحقوق الثقافية في الواجهة، مثل هذه الحقوق، وإن كان لا يزال يجري التعبير عنها بالدفاع عن نعوت خاصة، تخلع على الدفاع المذكور معنى شموليًا.

9- ينشأ على أنقاض المجتمع الذي زعزعته وهدمته العولمة صراعًا مركزيًا بين قوى لا اجتماعية عززتها العولمة، كحركات السوق والحروب والكوارث المحتملة، من جهة وبين الذات الفاعلة المحرومة من دعم القيم الاجتماعية التي تم القضاء عليها من جهة أخرى.

10- المعركة رغم ما سبق، ليست خاسرة سلفًا، لأن الذات الفاعلة تجهد من أجل إيجاد مؤسسات وقواعد قانونية تدعم حريتها وقدرتها الإبداعية، ومحط الرهان في هذه المعركة هما المدرسة والعائلة.

نظرة لتاريخ المجتمعات الغربية

11- بالعودة إلى التاريخ، كان تاريخ التحديث الأوروبي يكمن في استقطاب المجتمع بتكديسه الموارد والثروات على أنواعها، في أيدي نخبة معينة وتحديده سلبيًا الفئات المقابلة والمتشكلة دونيًا. لقد كان هذا النموذج من الفاعلية بحثًا غزا قسمًا كبيرًا من العالم. لكنه كان أيضًا، بحكم طبيعته هذه بالذات، حافلًا بالصراعات والتوترات.

12- لقد كونت الفئات الاجتماعية الموصومة بالدونية في القرنين الأخيرين، ولا سيما فئة العمال، تليها فئة المستعمرين، والنساء في الفترة نفسها، حركات اجتماعية ترمي إلى التحرر. وقد تم للفئات المذكورة تحقيق الكثير من أهدافها، ما أدى أولًا إلى تخفيف التوترات الملازمة للنموذج الغربي، ولكن أيضًا إلى إضعاف دينامية هذا الأخير. والخطر الذي يتهدد هذا القسم من العالم هو أنه لم يعد مؤهلًا لأن يضع نصب عينيه المزيد من الأهداف، ولا قادرًا على مواجهة صراعات جديدة.

13- لا مطمع لأي دينامية جديدة في أن تبصر النور إلا على قاعدة عمل قادر على إعادة جمع ما باعد بينه النموذج الغربي، بتجاوزه كل الاستقطابات. مثل هذا العمل بدأ يظهر من خلال حركات حماية البيئة، مثلًا، تلك التي تناضل ضد العولمة. لكن الفاعلات الرئيسات لهذا العمل الآن وغدًا، هن النساء، لأنهن يشكلن بفعل الهيمنة الذكورية فئة دنيا، ويتولين قيادة عمل أشمل من معركتهن التحررية، يتمثل في التأليف بين كل التجارب الفردية والجماعية.

نحن داخل النمط

هذا السرد ليس ببعيد على التأثير على مجتمعنا بل نحن داخل هذا النمط الذي فرض نفسه على الشعوب والمجتمعات، وإن أى قوانين أو تعديلات تصدر من الحكومات المنسحقة فى التبعية والمتأثرة بالعولمة إنما تصدر لتصب فى المحصلة النهائية لتعزيز هذه المفاهيم الجديدة ولخدمة التوحش الرأسمالي والذي آخر ما يفكر به هو الشعوب بخصوصيتها الحضارية أو الأخلاقية أو الدينية والاجتماعية.

اقرأ أيضا:

محمد صلاح والبحث عن الذات .. السعي والتركيز على الهدف وتحديد الطريق

 خلود جلجامش في عصر العولمة .. ولنا من روايات السابقين عبرة

المعاناة والألم … هل من سبيل للخلاص من المعاناة ؟ ولماذا نعاني من الأساس ؟

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط

ندعوكم لزيارة قناة الأكاديمية على اليوتيوب