باب الخروج
تخيل معى نفسك محتجز فى غرفة مغلقة ، سُمك حوائطها يبلغ ما لا يقل عن خمسة أمتار من الخرسانة المسلحة ، ذات باب خروج واحد لا تستطيع التفرقة بينه وبين حوائط الغرفة ، هنا أمامك طريقان ، إما أن تندفع محاولاً تحطيم حوائط الغرفة مع ما سيتبع ذلك من مجهود والمخاطرة بنسبة ليست بالقليلة للفشل ، وربما استنزاف مجهودك قبل الوصول إلى المخرج ولو ببضعة أمتار قليلة ، أو أن تعود للوراء وتجلس مسترخياً مفسحاً المجال لعقلك للنظر فى تلك المعضلة ، ومحاولة الوصول لحلها بطرق عديدة ليس المجال هنا لذكرها ، وهكذا هو ما نعيشه الآن أمام أزمة التعامل مع الوضع الحالى ، لتسيل الدماء أنهاراً كالمعتاد حتى وكأنما الناس قد ألفوها ، ولم تعد تثير بداخلهم أى رهبة أو تعاطف.
فمع ما نعانيه الآن من انقسام لا أظن بلادنا قد عانت منه يوماً منذ وحدها الفرعون مينا ، لتجد أمامك الرفاق والأصدقاء والأهل يحثون بعضهم البعض على الإقتتال ، وكأن الحياة ستغدو أفضل إذا لم يبق غيرنا وحدنا ، وكأن كل ما نقاسيه من آلام الفقر والجهل والمرض واهدار الكرامة لا لشىء سوى لوجود آخر -أى آخر ،- وهو ما لا يثير بداخلى حقيقة أى تخوف من أننا سنبلغ هدفنا ولو بعد حين ، ولكن يظل مبعث قلقى هو مقدار ما سنحطمه من أركان الوطن وما سنزرعه من كراهية وما نذرفه من دماء ، ناهيكم عن ما نهدره من مجهود عبثى لا طائل منه سوى تمزيق أشلاء مبعثرة لوطن مفكك ، يبحث له عن موضع كى يستعيد كونه وطن.
فالحقيقة الساطعة والتى يتعامى عنها الجميع الآن ، هى أنه لا يمكن القضاء على هذا أو ذاك ، وأنه لا بديل عن الوصول لحد أدنى من صيغة للتعايش ، تُكفل لهذا أو ذاك مقداراً ما من العدالة فى التعامل ، وكلامى هنا -كى لا أكون من هؤلاء الساسة الذين يظنون أنفسهم يتعاملون مع نظام يقيم لهم وزناً أو يسمع لهم رأياً- ليس موجهاً لهذا النظام البغيض الذى يجثم على صدورنا منذ أمد ، ولا تلك المعارضة الورقية الهشة التى ترضى وتفرح بدورها الصورى أمام عدسات التلفاز ، ولا لتلك النخبة التى تعانى الأمرين بين إنفصالها عن الشارع وجهلها بالعدو الحقيقى وفقدها للهوية والفكرة والمشروع ، ولكنه موجهاً بالأساس لهؤلاء الشباب الذين وقفوا يوماً صفاً واحداً فى مواجهة بطش كل من يقاتلون بعضهم البعض اليوم تحت رايته ، فرحين بسقوط رفاق الأمس شامتين فى صورهم مضرجين فى دمائهم ، حتى تكاد تصدق ما تبثه رسائل الإعلام المسمومة عن ثورة الفوتوشوب التى لم تحدث يوماً.
فمع ما أراه اليوم من ذلك التراشق اللفظى بين أصدقاء العشرة وإخوة الدم ورفاق العمر والكفاح ، والذى ينذر عن إنفجار سيلتهم الأخضر واليابس ومعركة الكل بها خاسر ، مهما طالت لن تكون لها نهاية ، لن يلبث أن يتغلب صوت العقل بعد أن تُهلك المعركة الجميع ، ويسقط من ضحايا العصبية ما لا يمكن معه الاستمرار ، ويدرك الجميع أنه لا بديل عن الحل الماثل أمامهم منذ البداية ، ولكن أبت نفوسهم المُحبة للسلطة الباحثة عن مجد زائف أو تائهة وسط غياهب الجهل ونقص المعرفة عن أن ترضخ له طواعية ، فربما عندها فقط نرجو ألا يكون لتبرير هذا السخف محلاً من الإعراب بما أودى بنا هذا الدرب إلى تهلكة سنرزح كثيراً تحت نير تبعاتها.
باختصار لم يعد أمامنا الآن سوى العودة إلى الوراء والتقاط الأنفاس ، والبحث عن باب الخروج فى أناة والعمل على الخروج من سجن التبعية المقيت ، الذى أصبحنا فى ظله على شفا هاوية الحرب الأهلية ، دون رادع سوى ضمائرنا وبقايا حكمة وعقل وربما إنسانية تعيدنا إلى درب النجاة من هذا الجنون ، الذى نعيشه وسط أناس أصبح أخر ما يثير قلقهم هو البركان الموشك على الإنفجار ، وسط حمية الجميع بالباطل سعياً لكابوس لا يدرك حجمه سوى أولى البصيرة الآملين فى رحمة الله واستفاقة ضرورية للجميع قبل فوات الآوان.