مقالات

انشطار !

انشطار !

“وصفت أمها ثلاث شخصيات مختلفة، فتاة في أوائل العشرين من عمرها، لا تبدو كإحدى لاعبات المصارعة الحرة -مفتولات العضلات-فتاة عادية وليست ممتلئة الجسم، لكنها في إحدى(شخصياتها) تستطيع التفوق على ثلاثة رجال مجتمعين يحاولون الإمساك بها ومنعها من الهرب أو السيطرة على سلوكها العنيف وربما طرحتهم أرضًا جميعًا!”

يحكى لنا أستاذ الأمراض النفسية والعصبية عن تجربته مع مريضته التي تعانى من اضطراب الشخصية الانفصامية  “dissociative identity disorder) “DID) أو الذى كان يعرف باضطراب تعدد الشخصيات “multiple personality disorder)  “MPD ).

 

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ربما بدت تجارب مرضى اضطراب الشخصية الانفصامية كالقصص الخيالية، وقد كان  هذا المرض مثار خلاف وجدل  كبير بين الأطباء النفسيين وأطباء المخ والأعصاب  لفترة طويلة، وكان الكثيرون يشكون ما  إذا كان  هناك مرض أصلا بهذه المواصفات والأعراض!

سنة 1980م تم الاعتراف بمرض تعدد الشخصيات، و عام 1994 م قامت رابطة الطب النفسى الأمريكى  بتغيير اسمه إلى اضطراب الشخصية الانفصامية، وتم وضع شروط ومعايير واضحة لتشخيصه تفاديا للخلط الذى كان يحدث بينه وبين أمراض أخرى.

مرض اضطراب الشخصية الانفصامية مرض نادر ويتميز بوجود شخصيتين أو أكتر مختلفتين لنفس الشخص و يشكو المريض من حالة  فقدان الذاكرة لبعض الأحداث في حياته ، نسيان لأحداث ولا يمكن تفسيره بالنسيان العادي الذى نتعرض له جميعا.

تشير الإحصاءات إلى أن 90% من الحالات المصابة به تعرضت في الصغر لاعتداءات جسدية وعاطفية بشكل مستمر ومتكرر ولفترات طويلة، والتفسير الذى يذكره الأطباء النفسيون حاليا للانفصام أن الطفل يحاول أن  يتعايش مع الاعتداءات التي يتعرض لها،  فيقوم بتقسيم شخصيته لأجزاء ، ويحاول أن يبعد تماما ذكرى هذه الاعتداءات ويتجاهلها، فيتكون عنده جزء يحمل تلك الذكريات المؤلمة ، وجزء يخفف عنه، وجزء يتعامل بعنف ويرد عنه ، وعادة ما تكون الشخصية الأساسية (المضيفة) سلبية، وربما كانت واحدة من الشخصيات حيوان!

تلك الشخصيات أو الانقسامات تسمى “alters”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وكل شخصية  لها مهارات وهوايات وطريقة كلام بل وممكن صوت مختلف،  وفى بعض الحالات قد يكون لدى شخصية حساسية من شىء ما وباقى الشخصيات لا تعانى نفس الحساسية.

 

كتير من الحالات يقدم على الانتحار وأذية غيره، وعادة  ما يشتكى المرضى من أعراض مثل الاكتئاب واضطرابات أخرى.

مرض اضطراب الشخصية الانفصامية هو ما يعانيه بطل فيلمنا “split”  أو ” انشطار ” الذي بُنىَ على قصة حقيقية، ففى عام 1975 م اتُّهِمَ مواطن أمريكى اسمه “بيلي ميليجان” بثلاث قضايا اغتصاب وقعت في حرم جامعة أوهايو، وتم القبض عليه وإدانته بها بعد ما تعرفت عليه الضحايا.

لكنه بعد ذلك تم تشخيصه من قبل أخصائى نفسي بمرض الشخصية الانفصامية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

استغل محامى “بيلى” ذلك التشخيص وبنى مرافعته عليه وكانت حجته أن “بيلى” لم  يرتكب تلك  الجرائم لكن شخصيات أخرى تَحكَّمت فى جسده  قامت بها، وفعلا سنة 1977م نجح فى الإفلات من القضية وقضى باقى حياته في مصحات نفسية.

“بيلى” اكتشف له أربعة وعشرون شخصية كبطل فيلم انشطار ، لكن هل كان فعلا مصاب باضطراب الشخصية الانفصامية ،أم  ادعى ذلك ليتمكن من الإفلات من العقاب ؟  لا أحد يعرف!

تُوفِّى “بيلى”  عام 2014 م.

 

يعرض فيلم انشطار  لشخصية “كيفن” الذى تعرض فى الطفولة لاعتداءات متكررة، والذى يعانى من اضطراب الشخصية الانفصامية، وقد تعرفت طبيبته النفسية على ثلاث وعشرين شخصية مختلفة له لتُفاجأ في نهاية فيلم انشطار بأنهم أربعة وعشرون بزيادة شخصية”الوحش” الذي يأكل الشباب غير الطاهر والذي يظهر في نهاية الفيلم لينتقم من فتاتين مراهقتين كانتا قد أذتا كيفن بشكل بسيط.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وبعيدا عن اضطرابات الشخصية الانفصامية، هل من الممكن فعلا أن يتحول الإنسان إلى وحش؟!

لا تتغير هيئته الآدمية، لا يكتسى جسده بالشعر، لكن هيئته النفسية والروحية هيئة وحشية!

 

الإنسان هو الكائن الوحيد في عالمنا الذي قضى الله أن يهبه القدرة على الاختيار، فأنت بينما تقرأ الآن هذا السطر تدرك تماما أنك من اخترت القيام بذلك وبإمكانك أن تكف عن القراءة بل وتغلق شاشة جهازك أو تنتقل لصفحة أخرى.

الإنسان لديه القدرة على الاختيار بين الترقى والسمو أو الانحطاط والتسافل والوحشية!

قَسَّم الحكماء قديما قوى النفس الإنسانية إلى عقلية، وشهوية، وغضبية، وتميز الإنسان عن الحيوان بعقله وروحه التواقة للمعرفة والخلق القويم المتعلقة بعالم المعارف والقيم والفضائل السامية النبيلة تسعد بها وتسمو، ومتى ما كان محرك الإنسان هو عقله الذى يميز به بين الحق و الباطل والصحيح و الخاطئ؛ كانت حياته رحلة استزادة وترقى.

وقد وهبنا الله قوتى الشهوة والغضب لنحمى أجسامنا من الهلاك، فلا أظن أنّى وأعتقد أنت أيضا تعرف عشرة أشخاص يأكلون لأنهم يدركون بعقلوهم مدى احتياج أجسامهم للطعام ؛فيدققون في كل عنصر غذائي يتناولونه ومدى توافقه مع احتياج أجسامهم الذى أدركوه بشكل عقلى، وإن كنت تعرفهم فإنك محظوظ لأن غالبية البشر يأكلون حينما يشعرون بالجوع ! تتحرك شهوتنا للطعام في شكل غريزة الجوع فنأكل، ولا أظنك أيضا تعرف عشرة أشخاص تزوجوا للحفاظ على الجنس البشري من الانقراض!

كذلك الغضب قوة نفسية أودعها الله فينا لندفع عن أنفسنا الضرر بها، فإذا رفع أحدهم الكرسي الذي يجلس عليه وهَمَّ بضربك به فإنك تدفع يده بعيدا عنك بشكل طبيعى لتدفع هذا الأذى.

وبالتالى؛ فالشهوة والغضب وُجِدَتا لتحفظا بقاء البدن، لكنهما لا تستطيعان التمييز بين الحق والباطل أو الصحيح والسقيم، فتحتاج لتوجيه وقيادة العقل، ومتى ما تحكمتا بالإنسان وأمسكتا بزمام أمره وطوعتا الإنسان لها فصار إنسانًا شهوانيًا تُحركه نزعاته ورغباته وشهواته وحبه لنفسه، وأصبح كالوحش الكاسر يقوده غضبه دون وازع أو رادع.

 

الإنسان لديه القدرة على الاختيار بين تحكيم عقله في مملكة نفسه فيسمو ويعلو ويصل لأعلى المراتب والمقامات المعنوية، أو يسلم الزمام لشهواته وغرائزه وغضبه فيتسافل وينحط لأسفل المراتب ، والتاريخ الإنسانى يزخر بالنماذج البشرية التى علت وتسامت وارتقت وقدمت للبشرية الكثير. وكانت كالنجوم اللامعة في سمائها، وكذلك يشهد بإمكانية تحول الإنسان إلى وحش يستنزف الفقير ويقيم على جثته ناطحات السحاب العالية، ويعذب البرئ ويتلذذ بامتهانه وإذلاله ويسلب الحقوق ويهتك الحرمات، وحش يقتل حسدًا ويحتقر ويذل أخيه كبرا وغرورا.

فكإجابة على السؤال؛ نعم! من الممكن أن يتحول الإنسان إلى وحش، لكن كذلك بإمكانه أن يصير فاضلًا عاقلًا ويصل لأعلى المقامات والمراتب.

 

المراجع:

 اقرأ أيضاً .. مناقشة عن فيلم الدائرة The circle

اقرأ أيضاً .. مناقشة عن فيلم شكراً لأنك تدخن Thank you for smoking

اقرأ أيضاً .. تأملات في فيلم الذهب الأسود Black gold 

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

 

داليا السيد

طبيبة بشرية

كاتبة حرة

باحثة في مجال التنمية العقلية والاستغراب بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

حاصلة على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

مقالات ذات صلة