الْعُزْلَةِ
ذَهَبْتُ إِلَى صَدِيْقٍ لِي بِالْأَمْسِ، فَإِذَا بِهِ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ وَالْكَرْبِ، وَالضِّيْقِ وَالْخَطْبِ، وَكَأَنَّهُ يَتَلَجْلَجُ فِي أَعْمَاقِ جُبٍّ، وَقَدْ بَدَا عَلَيْهِ وَسْمُ الْإِعْيَاءِ، وَظَهَرَتْ مِنْهُ سِيْمَا الشَّقَاءِ، وَتَبَدَّتْ آَيَاتُ الْعَنَاءِ، وَتَرَاءَى كَمَا لَوْ كَانَ خَارِجًا فِي تَوِّه مِنْ عَمَلِيَّةٍ جِرَاحِيَّةٍ خَطِيْرَةٍ،
قَدْ ذَبُلَ جِسْمُهُ، وَنَحَلَ وَشْمُهُ، وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ، وَتَبَدَّلَتْ بِزَّتُهُ، وَانْحَنَى عُوْدُهُ، وَغَابَ صُمُوْدُهُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بُدٍّ –وَأَنَا الصَّدِيْقُ الْحَمِيْمُ، وَالصَّاحِبُ لَهُ وَالنَّدِيْمُ– إِلَّا أَنْ أَسْأَلَهُ، بَعْدَ أَنْ رَأَيْتُ سُوْءَ حَالَتِهِ، وَأَدْرَكْتُ مُنْتَهَى غَايَتِهِ:
– مَا بِكَ؟ وَمَا الَّذِي غَيَّرَكَ؟ وَمَا الَّذِي أَهَمَّكَ وَبَدَّلَكَ؟ وَمَا الَّذِي فِي هَذِي الصُّوْرَةِ قَدْ شَكَّلَكَ وَرَكَّبَكَ؟! قُلْ، تَحَدَّثْ، أَسْمَعُكَ، نَعَمْ أَسْمَعُكَ!
اليأس والقنوط
فَإِذَا بِهِ وَقَدْ أَخْفَى عَبَرَاتٍ حَارَّةً، صِيْغَتْ مِنَ الْإِيْلَامِ وَالْأَسَى، وَاصْطَبَغَتْ بِالْمَرَارَةِ وَالشَّجَى، يَقُوْلُ بِلِسَانٍ مَوْجُوْعٍ، وَقَدِ اخْتَنَقَ مِنَ الضُّلُوْعِ:
– لَقَدْ سَئِمْتُ الْحَيَاةَ يَا صَاحِبِي، وَأَصْبَحْتُ لَا أُطِيْقُ الْعَيْشَ فِيْهَا، أَوِ السَّيْرَ فِي دُرُوْبِهَا، أَوِ الْاطْمِئْنَانَ فِي أَكْنَافِهَا، أَوِ النَّظَرَ فِي مَتَاهَاتِهَا، نَعَمْ، تَعِبْتُ، وَشَقِيْتُ، وَسَئِمْتُ، سَئِمْتُ كُلَّ شَيْءٍ، سَئِمْتُ الْعَالَمَ بِكُلِّ مَا فِيْهِ،
سَئِمْتُ الْوُجُوْدَ بِمَا يَحْوِيْهِ، نَعَمْ، سَئِمْتُ الْأَهْلَ، وَالْجِيْرَانَ، وَالْأُسْرَةَ وَالْخِلَّانَ، سَئِمْتُ الزَّمَانَ وَالْمَكَانَ، وَالْحَاضِرَ وَالْأَوَانَ، بَلْ لَقَدْ سَئِمْتُ نَفْسِي، نَعَمْ سَئِمْتُ نَفْسِي الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ!!
فَقُلْتُ لَهُ، وَقَدْ هَالَنِي مَا رَأَيْتُ، وَاهْتَمَمْتُ بِمَا شَاهَدْتُ، وَاغْتَمَمْتُ بِمَا سَمِعْتُ، وَمِنْهُ قَاسَيْتُ:
– هَوِّنْ عَلَيْكَ يَا صَاحِبِي، هَوِّنْ عَلَيْكَ، قُلْ لِي مَاذَا جَرَى؟ مَا الَّذِي أَلَمَّ بِكَ وَغيَّرَكَ، وَحَاقَ بِكَ وَبَدَّلَكَ؟! لَقَدْ حِرْتُ فِي أَمْرِكَ، وَدُهِشْتُ مِنْ خَبَرِكَ؟! تَكَلَّمْ يَا صَاحِبِي، تَكَلَّمْ بِاللهِ عَلَيْكَ، فَمَا عُدْتُ أَتَحَمَّلُ رُؤْيَتَكَ وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ، أَوْ أَلْقَاكَ وَأَنْتَ فِي هُمُوْمِكَ تَشْقَى وَتَتَقَلَّبُ، هَيَّا قُلْ لِي مَا الَّذِي حَدَثَ مَعَكَ؟ عَلَّنِي أُسَاعِدُكَ، أَوْ أَجِدُ مَخْرَجًا لَكَ يُخَلِّصُكَ!
عالم منافق
فَأَجَابَنِي بِكَلَامٍ يَقْطَعُ نِيَاطَ الْقُلُوْبِ، وَتُشَقُّ مِنْ وَقْعِهِ الصُّدُوْرُ وَالْجُيُوْبُ، وَالْحَيْرَةُ تَمْلَؤُهُ، وَالْحُزْنُ يَكْلَؤُهُ:
– مَاذَا أَفْعَلُ بِاللهِ عَلَيْكَ؟ قُلْ لِي مَاذَا أَفْعَلُ؟! لَقَدْ أُنْهِكْتُ فِي هَذِي الْحَيَاةِ، وَأَصْبَحْتُ لَا أُطِيْقُ الْعَيْشَ فِيْهَا، وَلَمْ أَعُدْ قَادِرًا –مِنْ ثَمَّ– عَلَى الْانْدِمَاجِ مَعَ أُنَاسٍ تَقَنَّعُوْا بِالْحُبِّ وَالْوَفَاءِ، وَقَدْ أَخْفَوْا الْغَدْرَ وَالْفَنَاءَ، مَاذَا أَفْعَلُ؟
وَأَحَدُهُمْ يُقَابِلُكَ بِابْتِسَامَتِهِ، وَيَرْفَعُ لَكَ رَايَتَهُ، وَهُوَ يَتَمَنَّى لَكَ الْمَوْتَ الْمُعَجَّلَ، وَالْهَلَاكَ الْمُدَمِّرَ، مَاذَا أَفْعَلُ مَعَ مَنْ يُقَابِلُكَ بِالْأَحْضَانِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَآَنٍ، وَقَدِ انْطَوَى عَلَى خِسَّةِ الْأَفَاعِي، وَتَأَبُّطِ الشَّرِّ وَالثُّعْلُبَانَ؟! مَاذَا أَفْعَلُ؟ نَعَمْ، قُلْ لِي: مَاذَا أَفْعَلُ؟
فَلَا أَنَا قَادِرٌ عَلَى الْوِحْدَةِ وَالْانْعِزَالِ، وَالْاسْتِقْلَالِ وَالْارْتِحَالِ، وَلَا أَنَا بِمُسْتَطِيْعٍ التَّعَايُشَ مَعَ وَاقِعٍ مُؤْلِمٍ، وَحَاضِرٍ مُتَهَرِّئٍ مُضْطَّرِمٍ مُدْلَهِمٍّ، غَابَ فِيْهِ النُّوْرُ، وَعَمَّ الظَّلَامُ، وَقُتِلَ الْحُلْمُ، وَوُئِدَ الْوَلِيْدُ، وَانْدَثَرَ الْأَمَانُ، وَاخْتَفَى الْإِيْمَانُ، وَاقِعٌ قَدِ اسْتَشْرَتْ فِيْهِ الْحَرْبَاوَاتُ، وَعَاثَتْ فِيْهِ الثَّعَالِبُ، وَاسْتَنْسَرَ الْبُغَاثُ، وَنَعَقَ الْبُوْمُ، وَذَاعَت فِيْهِ الْغِرْبَانُ، وَانْكَسَرَ فِيْهِ الْحِمْلَانُ، وَطَأْطَأَ فِيْهِ الْغِزْلَانُ،
وَعَشَّشَتْ مِنْ ثَمَّ الْجُرْذَانُ، وَاخْتَبَأَ الْحَمَامُ، وَاخْتَفَى الْيَمَامُ، وَكَفَّ الْكَرَوَانُ عَنِ الْغِنَاءِ، وَحُبِسَ الْقَطْرُ فِي السَّمَاءِ، وَغَابَ الْبَدْرُ فِي الْمَسَاءِ، وَخَرَجَتِ الْحَيَّاتُ مِنْ جُحُوْرِهَا، وَانْطَلَقَتْ الضِّبَابُ مِنْ أَحْرَاشِهَا، وَرَقَصَتِ الْقُرُوْدُ، وَسَقِمَتْ الْأُسُوْدُ، وَذَوَتِ الْأَغْصَانُ، فَانْهَارَ الْجِدَارُ، وَانْهَدَمَ الْبُنْيَانُ!
اللجوء إلى الله
ثُمَّ أَكْمَلَ سَارِدًا حِكَايَتَهُ، بَلْ حِكَايَةَ كُلِّ وَفِيٍّ أَمِيْنٍ، صَادِقِ الْيَقِيْنِ، يَرْفُضُ الْخِدَاعَ، وَيَأْبَى الضَّيْمَ وَالذِّلَّةَ فِي عَالَمِ الضَّيَاعِ، وَقَدْ تَرَقْرَقَتْ جُفُوْنُهُ، وَغَاضَتْ عُيُوْنُهُ، وَهُوَ يُلْقِي بِحَدِيْثِ الْأَسَى، وَقِصَّةِ الشَّجَى، وَهُوَ لَا زَالَ يَتَسَاءَلُ، مُوَجِّهًا كَلَامَهُ إِلَيَّ، بَيْنَمَا قَدْ غِبْتُ فِي الْهَمِّ، وَرَكِبَنِي الْغَمُّ:
– نَعَمْ قُلْ لِي مَاذَا أَفْعَلُ بَعْدَ أَنْ تَكَدَّرَتْ مِيَاهُنَا، وَانْكَسَرَ إِنَاؤُنَا، وَتَشَظَّى جَمْعُنَا، وَتَفَرَّقَ شَمْلُنَا، وَاخْتَلَطَ حَلِيْبُنَا، وَخَانَ أَرِيْبُنَا، فَلَمْ يَتَبَقَّ لِي إِلَّا الْمَوْتُ، نَعَمْ الْمَوْتُ، وَالدُّعَاءُ إِلَى اللهِ أَنْ يُخَلِّصَنَا مِنْ نَيْرِ تِلْكُم الْحَيَاةِ، وَيَنْتَشِلَنَا مِنْ رِبْقَةِ هَذِي الْمَعِيْشَةِ،
وَيُعَجِّلَ لَنَا عَلَّنَا نَلْقَاهُ، وَنَحْنُ فِي هَذَا الْبُؤْسِ، وَذَاكُمُ الشَّقَاءِ، وَمَا حَلَّ بِنَا مِنَ الْيَأْسِ، فَيَنْظُرَ إِلَيْنَا نَظْرَةَ شَفَقَةٍ وَحَنَانٍ، وَعَطْفٍ وَأَمَانٍ، فَيَرْحَمَنَا، نَعَمْ يَرْحَمَنَا، أَفَلَا نَسْتَحِقُّ الرَّحْمَةَ بَعْدَ كُلِّ هَذَا الشَّقَاءِ؟! أَفَلَا نَسْتَحِقُّ؟!
فَتَرَكْتُهُ، وَالْحَيْرَةُ تَكَادُ تَقْتُلُنِي مِمَّا سَمِعْتُ مِنْ مَقَالِهِ، وَمَا شَاهَدْتُ مِنْ حَالِهِ وَمَآَلِهِ، وَانْطَلَقْتُ لَا أَلْوِي عَلَى شَيْءٍ!
اقرأ أيضاً:
اترك اليأس وأبدأ الحياة من جديد
لماذا خلق الإنسان؟ لماذا نعاني؟
فلسفة الانعزال… حقيقة أم خيال؟
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا