إصداراتمقالات

الوقوع في الفخ

ما بين من ينادي بنسبية كل المبادىء والقيم في عصرنا وبين من يرفض ذلك وينكره يعيش الكثير من الناس خاصة الشباب في حيرة شديدة وتظهر تبعًا لذلك العديد من الأسئلة التي لا إجابة واضحة لها.

فالعالم متجه منذ فترة كبيرة لمبدأ النسبية في كل وأي شيء فلا يوجد أي شيء مطلق، الحق من وجهة نظري يختلف عنه من وجهة نظرك وبالتالي قد نكون جميعا على الحق في نفس القضية! والعدل إذا رأيتَه بمفهوم معين فهذا لا يعني أنك محق فأنا أراه من وجهة نظر أخرى، هكذا أصبحنا نحيا في عصر نسبية القيم والمعايير فكل له وجهة نظره التي ينطلق منها!

دعونا نبدأ وبهدوء في تعريف ما هو النسبي وما هو المطلق؟

الأمر النسبي لغويا: هو المقيد بغيره والمرتبط به من غير إطلاق وهو هنا المنسوب للفرد نفسه وهو يختلف باختلاف الأذواق، مثل الاذواق المتعلقة بالطعام واختيار الالوان، أو المنسوب لمجتمع معين وعاداته وأعرافه، مثل الملابس وأذواقها وأشكالها المختلفة المرتبطة بحضارة أو تاريخ هذا المجتمع. وهذه الأمور متغيرة من وقت لآخر وليست ثابتة أو ملزمة لأي انسان بل كل حسب ذوقه وميولة.

أما الأمر المطلق فهو غير المقيد بشيئ والثابت في ذاته الذي لا يتغير عبر الزمن ولا يختلف من مجتمع لآخر أو من شخص لآخر وهو إما

اضغط على الاعلان لو أعجبك
  • أمور بديهية واضحة بذاتها لاحاجة لإثباتها مثل البديهيات العقلية – الكل أكبر من الجزء -لكل معلول علة- عدم اجتماع النقيضين في نفس الوقت والمكان.
  • أمور تم إثباتها بالبرهان العقلي اليقيني مثل العمليات الرياضية أو الفيزيائية المثبته بالبرهان والمبني عليها كل العلم الحديث.
  • امور تعتمد على الخبر الصادق الذي اجتمع عليه عدد كبير جدا من الناس بالتواتر مما يستحيل معه الكذب مثل معرفتنا أن هناك دولة تدعي الهند بالرغم من أننا لم نرها أو نذهب إليها أو معرفتنا بوجود شخصية تاريخية مثل محمد علي بالرغم من أننا لم نره قط.

وهنا تجدر الإشارة لمن يدعي أن العلم أثبت خطأ هذا الكلام وأن النظرية النسبية للعالم ألبرت اينشتين أثبتت أنه لا وجود للمطلق وأن كل شيء في العالم نسبي، هنا ولأنه لا مجال لمناقشة تفاصيل هذه النظرية العلمية الفذة فقط نكتفي بتوضيح أن النظرية النسبية متعلقة بمجال الفيزياء والأجسام وعلاقتها بالزمان والمكان ولا يمكن تطبيقها على عالم القيم والمعايير وإلا انهار كل شيء ولم يمكن للإنسان الحياة..

ودعونا نتحدث عن مفهوم العدل كمثال لقيمة ومعيار ثابت مطلق:

ما هو العدل؟ العدل هو إعطاء كل ذي حق حقه. إذا هنا نحن في حاجة لتعريف الحق..

 ما هو الحق؟ الحق هو كل ما في الواقع الخارجي حولنا سواء ماديا أو معنويا وهو إما في حاجة لإثبات وجوده بالدليل أو واضح مثبت بذاته لا يحتاج لدليل .

وسوف نضرب مثالا لقصة بسيطة للمزيد من توضيح القضية، قام رجل قام بشراء بيت من رجل  آخر ودفع له القيمة المستحقة وقام بتسجيل العقد في وجود الشهود، فأصبح البيت من حقة قانونا، ثم جاء شخص أخر معه سلاح وطرد هذا الرجل من بيته تحت قوة هذا السلاح مدعيا ان هذا البيت هو بيته، فاختصم الرجلان أمام القضاء ، قام الأول بتقديم الأوراق التي تثبت ملكيته للبيت، بينما لم يقدم الآخر إلا ادعائه اللفظي أن البيت من حقه هو، فكيف يمكن أن يحكم القاضي بينهما، كيف يمكنه تحقيق العدل؟ لو أن العدل مفهوم نسبي متغير، هل يمكن للقاضي هنا أن يحكم لأي من الطرفين بأي شيء؟ لو أن الحق يختلف باختلاف وجهات النظر، إذا حكم القاضي من خلال مفهومه الخاص عن الحق والذي قد يكون هو حق القوة وأن من يمتلك القوة هو من على الحق وفي هذه الحالة  فالحكم في هذه القضية لمن يملك السلاح لا لمن يملك الدليل والبرهان!

والحقيقة أن هذا المثال الصغير الذي يحدث في الحياة كثيرا، هو صورة مبسطة لما نحياه الآن من مأساة نسبية القيم وازدواجية المعايير ، النسبية كأسلوب حياة وحقيقة – مطلقة – هو ما تدعو اليه الفلسفة المادية البراجماتية منذ زمن بعيد وهو ما استطاعت ترسيخه في أذهان البشر في مختلف المجتمعات ومن مختلف الثقافات والتيارات والمذاهب! ولكن وبالرغم من نجاحها المذهل في ذلك إلا أنها لم تلبث أن تعاني الكثير من النتائج المفجعة الناتجة عن ما نشرته وتؤمن به فجميعنا يعرف ما تعرضت له ومازالت تتعرض له المجتمعات المتبنية للفلسفة المادية من هجمات شرسة علىها فكريا و فعليا من تفجير الأماكن العامة في مجتمعاتها وما ينتج عنه من قتل لكثير من الأبرياء وهذا يمثل نتيجة مباشرة لما تروج له من حق القوة ونسبية المعايير، وهي في ذلك تشبه من قام بتجهيز الفخ لخصمه حتى يقع فيه فإذا به هو الآخر لم يسلم من الوقوع في نفس الفخ ليجد نفسه أول المنتقدين والرافضين للنسبية والازدواجية التي كان ومازال يؤمن بها ويروج لها في العالم بأكمله!

ومما سبق نخلص إلى أن الأزمة الحقيقة التي نعيشها في العالم حاليا هي أزمة مفاهيم، أزمة الخطأ في الفهم والتصور لما حولنا في الحياة والتي نتج عنها حالة الضبابية والعبث الحالي المتمثل في مجتمعات غارقة في أمور جزئية غير مهمة بينما هي في غفلة تامة عن أمور كلية ضخمة تمثل مشاكل كبيرة تنخر في أساسها حتى أصبحت على حافة الانهيار التام، فلم نجد حتى الآن رأيًا موحدًا واضحًا في مشاكل مجتماعتنا مثل البطالة أو الأمية أو مشاكل تدني الخدمات الصحية والتعليمية، لم نجد أي جهد حقيقي مبني على فهم وتصور صحيح موحد لمدى خطورة هذه الأزمات وانعكاساتها على المجتمع، إذا نحن في حاجة ماسة لتصحيح وتوحيد المفاهيم والقيم والتي منها ننطلق في تفكيرنا عن كيفية حل هذه المشكلات هذا إذا أردنا فعلا أن نقف على أرض ثابتة ونتحرك بخطى واثقة  وننهض بأنفسنا وأوطاننا.

منى الشيخ

مطور برامج

باحث بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالاسكندرية