مقالات

عودة الروح.. كيف نصنعها؟ – الجزء الأول

أصدقُكَ القول: لقد اعترتني رِعْدةٌ، أو هِزَّةٌ ليست كرعدة عروة بن حزام، ولا هي هِزَّة أبي صخر الهذلي جراء هجران حبيبتيهما، على نحو ما هو مشهورٌ في أشعارهما المذخورة في الذاكرة الجمعية العربية بحيويتها الماتعة، وإنَّما بأثر الدهشة التي ملكت مني القلب والعقل معًا من ردة فعل أمة العرب، في شيوعها العام من خليجها إلى محيطها، على مشهد تلك القطة الوادعة التي اعتلت ذلك الإمام الجزائري الفاضل، وهو يؤدي شعيرة صلاة التراويح في ليل رمضان المنصرم في ظلالٍ من خشوعٍ وإتقانٍ، فجعلت تقبِّل وجنته وهو ثابتٌ مسترسلٌ في تلاوته العذبة، حتى قضت منه وطرها، ثمَّ تركته متنحيةً عنه، وأكمل هو صلاته مأجورًا.

هذا الحادث العابر الذي تحول بقدرة قادرٍ إلى حادثٍ جللٍ، إذ جرت فيه أطراف الأحاديث، ولاكته ألسنة العرب، وكَثُرت مشاهداتُه عبر وسائل التواصل إلى ملايين المشاهدات، والتعليقات، ثمَّ ذهبت فيه الأقوال والتأويلات مذاهب شتَّى بين قائلٍ بإعجازه، ومن يؤوله سيميائيًا، ومن يطنب في وصف الإنسانية، ويعظِّم من رقة الإمام والإسلام، ومن يتحدث عن الخشوع والتقوى… وهلمَّ جرَّا.

ظنِّي الذي أجزم به، أنَّ الإمام الفاضل رأى أن هذا شأنٌ عابرٌ دون الاكتراث به في الصلاة، ودون أن يؤثِّر على مجريات الشعيرة، فترك القطة وشأنها غير عابئٍ بها، أو لعلَّه تذكر الأثر النبوي الذي يومئ إلى دخول امرأةٍ النار في هِرَّةٍ حبستها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خَشاش الأرض، أو لعلَّ أمرًا خفيًا لا نعلم سرَّه كان وراء سلوك الإمام الرزين الرصين تجاه قطته، التي أضحت بين عشية وضحاها ذات شهرةٍ وذيوعٍ عظيمين في ربوع العالم كلِّه! ولك أن تقدِّر –مثلًا– أنها قطة اعتادت دخول المسجد، واعتاد الإمام ملاطفتها والعبث معها، الشأن الذي أنشأ ألفةً بينهما، يسَّرت لها أن تعتليه وتقبِّله، وسهَّلت له أن يتحملها فلا يجزع منها، ولا ينفر من عبثها، بل لعلَّه استمرأ ذلك، وتحببه منها من دون أن يقصد من وراء ذلك كله شيئًا آخر غير علاقة عابرة لإنسان مع قطته أو مع أية قطةٍ أخرى قد لا تكون له علاقة بها من قبلُ.

لكنَّ الحادث العابر نجم عنه أثرٌ غير عابرٍ، بل أثرٌ عجيبٌ في صدمته وإدهاشه، إذْ إنَّ قراءة الأثر بعمقٍ تبرر العَجَبَ والدهشة معًا، لأنها قراءة تكشف عن فداحة السياق العام الحاكم للوعي العربي في حضوره الجمعي، وهو وعي تكاد نفسك تذهب عليه حسراتٍ، جرَّاء الوخز الأليم الذي يعتريك من بذخ الخواء، وعموم الخرافة، وتمكن السطحية، والضحالة، والجهل، بل أنت على الحقيقة، ستدرك رويدًا رويدًا أنَّك أمام وعي مفجوعٍ بأزمته المزمنة، وواقعٍ مترعٍ بحسِّ الهزيمة الحضارية التي تصنع باقتدار ألم المفارقة بين ذاكرة يسكنها ماضٍ مترع بالانتصارات العربية، وسيادة الدنيا، وقيادة زمام الحضارة ورقي الإنسانية، وبين حاضر متردٍ تأتيه الهزائم من كل مكانٍ، وتتكسر فيه النصال على النصال كما زعم المتنبي من قبل، كأنَّ الزمان قد استدار لأمة العرب، وولَّى عنها هاربًا، فجعل يرميها من بعيدٍ ومن قريبٍ بالأرزاء تتوالى عليها تَتَرى، حتى غدت الذات العربية مبعثرةً، بل ممزقة تتنازعها الأهواء والأهوال، وتسطو عليها المفترسات من كلِّ حدبٍ وصوبٍ. إنَّ قراءة الأثر على حقيقته، تميط اللثام عن بذخ الهوان الذي يملأ الذات العربية، وعن القنوط واليأس اللذين تبنَّكا في فؤادها، وعن مدى تعطشها إلى أي تحققٍ لها، أو لأي حادث عابر تبحث فيه عن رائحةٍ لنصر، وتفتش فيه عن بقايا مجدٍ غابرٍ، أو شيءٍ من وجودٍ يرضي شغفها بالحضور بين الناس، وفي دنيا العالمين.

الحقّ الذي أزعم لك في هذا السياق المهترئ، ألَّا يعتريك العجب العجاب حينما ترى جمهورًا غفيرًا يهلِّل، ويكبِّر لهدف أحرزه محمد صلاح أو رياض محرز في الدوري الإنجليزي، أو غيرهما في الدوريات العالمية الشهيرة مدعين في ذلك نصرًا عظيمًا، ومجدًا تليدًا، وما هو بعظيمٍ ولا بتليدٍ، بل ليس لك من أمر العجب شيءٌ حينما ترى كثيرًا من أساتذة الجامعات، والصحفيين، والقانونيين وغيرهم من الفئات المفترض فيها أصالة البحث، وعمق تحري الحقائق، يتنازعون أمرهم بينهم، ويتخاصمون أشدَّ الخصام وأشنعه على مباراة في أحد الدوريات المحلية العربية، التي في واقعها تقدم مستوى رديئًا في كرة القدم قياسًا بما نراه في العالم كلَّه، ويكاد يلعب فيها المتردية والنطيحة وما أكل السَّبُع. فلا تعجبْ! ولا تعض أصابع الندم! لأنَّ هذا كلَّه ناجمٌ عن السطحية والضحالة، وناتجٌ عن صغر النفوس الحيرى، وهوان العزائم الخائرة، وتفاهة الطموحات الوضيعة، والرؤى السَّاذجة، وهو الذي يجعل كثيرين يرون في حادث القطة معجزةً، ومفخرةً إنسانية وأخلاقية، وما هو بمعجزةٍ، ولا بمفخرةٍ، وإنما أمرٌ عاديٌّ لا غرابة فيه، ولا عجب يعتريه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إنَّ مثل هذه التجليات –وما أكثرها– أعراضٌ لمرضٍ عضالٍ ينخر في مفاصل أمة العرب كنخر السوس في العظام خفيةً، وهو مرض الجهل، والتخلف، ومرض الخِفَّةِ والتشبث بالمظاهر على حساب الجواهر، والأعماق، والحقائق. ألا ترى كثيرًا من المسؤولين عن المؤسسات العربية لا يكترثون لشيءٍ في فعاليةٍ ما تُقام بإشرافهم قَدْرَ اكتراثهم بالتقاط الصورة في البدء والختام؟! وما عدا الصورة لا يهمهم في شيءٍ، لأنهم ليسوا مشغولين بشيءٍ حقيقيٍّ قدر انشغالهم وتهوُّسهم بمظهرية الصورة، وكيف يسوقونها إعلاميًا، وسياسيًا، وكيف يحوِّلون ذلك كلَّه إلى ربحٍ ماديٍّ وإداري!

إنَّ شيوع الوهن سمح لشيوع الخرافة، وعموم فكر الكهنوت، والسحر، والشعوذة، والدجل، والنصب، والتزوير… وقلَّل من حيوية التفكير المنطقي، والفلسفي، والعلمي، والنقدي، والعقلاني، والمنهجي، والإبداعي. لقد أفضى ذلك كلُّه إلى بهتان الحقيقة، بل مكَّن لقتلها، وتعمد تغييبها، وأصبح العربيُّ وَجِلًا من حضورها، خائفًا من نصاعتها، ومن كُلْفتها. لقد أوسع المجال للأباطيل، والخزعبلات، والترهات لكي تتمكن من بنية التفكير، وتسيطر على الذهنية الجمعية العربية، الشأن الذي سهَّل لكثير من المحتالين ترويج أفكارهم، والتمكين لخرافاتهم، وأباطيلهم بين الناس.

هذا الذي نوحي به إليك على غير عجلة منَّا، هو في جوهره ما مكَّن لشيوع الخطاب السائد حاليًا في الوعي الجمعي العربي، وهو على نحو ما، وبأثرٍ من ظلال نظرية السياق، أسهم في فساد النخبة الاستثنائية بفوقيتها الزائفة في عالمنا العربي، وهو عينه ما غيَّب عن قصدٍ أو غير قصدٍ، الروح العربية الحقيقية، وشارك ببراءةٍ أو بخبثٍ، في تأخير عودتها إلى الذات الكَلْمَى، فأضحت تهيم على وجهها في صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء، فأنَّى لها أن تستعيد رشدها، وتملك زمام أمرها فكرًا، وتميزًا، وارتيادًا.

يتبع…

مقالات ذات صلة:

النخبة وصناعة الوعي

تغييب الوعي لا شعوريا واستيراد الطاقات السلبية

عن ضرورة الوعي بخطورة العولمة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د. عبد الرحمن عبد السلام محمود

أستاذ النقد الأدبي الحديث بكلية الألسن جامعة عين شمس وكلية أحمد بن محمد