“الورق السمرقندي وأهميته في الحضارة الإسلامية”
لقد استعملت الجلود في الكتابة أكثر من غيرها من المواد في أول الأمر وشاع استخدامها في صدر الإسلام، وأصبحت للجلود العربية التي كانت تتخذ للكتابة خصوصيتها وصفاتها الجيدة، وكانت تصنع من جلود الإبل والغنم والمعز والغزلان والحمير الوحشية والظباء، ومن أشهر أنواع الجلود التي استعملت للكتابة الرقوق، وهي نوع متطور من الجلود في الصنعة وأسلوب الدباغة والصقل، فكانت رقيقة لينة خفيفة آية في الدقة والجمال وأصبحت مادة رئيسية في الكتابة، واشتهرت في تلك المدة مدن عربية في صناعة الرقوق والجلود منها صنعاء وصعدة ونجران والطائف، ثم انتقلت أحدث أصول الدباغة إلى الكوفة وتم إتقانها وتحسينها وفاقت في صناعتها الرقوق التي كانت تصنع في المدن الأخرى،
وقد كتبت على الرقوق سور وآيات القرآن الكريم عند نزولها، وكذلك أقوال الرسولﷺ والعقود والمواثيق والصكوك والأخبار ورسائل الرسول إلى ملوك زمانه، ونسخت عليها المصاحف الكريمة ومنها المصحف الذي جمع في عهد أبي بكر الصديق، وكذلك المصاحف التي أمر بنسخها الخليفة عثمان بن عفان، والتي أرسلت إلى الأمصار وكانت النماذج التي كتب عليها القرآن الكريم في تلك الحواضر،
القراطيس
وإلى جانب الرقوق استخدمت أوراق البردي المصرية (القراطيس) التي كانت تصنع من لحاء البردي في مصر، إذ كان اللحاء يصف صفا طوليا، ثم توضع طبقة فوق الطبقة الأولى، ويصمغ اللحاء بصموغ نباتية، فتتكون ألواح مرنة وتقطع على شكل قطع طويلة وبعرض مناسب بحسب الحاجة، وذكر السيوطي (ت911هـ): “إن مصر اختصت بالقراطيس وهي الطوامير ويكون طول الطومار ثلاثين ذراعا وعرضه أكثر من شبر”، ولذا اصطلح عليها لفائف أو قراطيس البردي المصرية.
وبعد فتح مصر سنة عشرين للهجرة كثر استخدامها في الحقبة الأموية وبداية الفترة العباسية وخصوصا في العراق، وكانت للقراطيس دور هام في الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية، واستخدمت في زمن الرسول ﷺ في كتابة آيات وسور القرآن الكريم إلى جانب المواد الأخرى التي ذكرناها.
واتسع استخدامها، وقد ذكر لنا محمد بن عبدوس الجهشياري (ت331هــ/942م): “إن الخليفة أبا جعفر المنصور وقف على كثرة القراطيس في خزانته فدعا بصالح صاحب المصلى فقال له: إني أمرت بإخراج القراطيس من خزائننا فوجدتها كثيرة جدا فتولَّ بيعها وإن لم تعط بكل طومار إلا دانقا، فإن تحصيل ثمنه أصلح منه، قال صالح: وكان الطومار في ذلك الوقت بدرهم.
فانصرفت من حضرته على هذا، فلما كان في الغد دعاني فدخلت عليه فقال لي: فكرت في كتبنا وأنها قد جرت في القراطيس وليس يؤمن حادث بمصر فتنقطع القراطيس عنا بسببه فنحتاج إلى أن نكتب فيما لم نعوده عمالنا فدع القراطيس استظهارا على حالها”. وهذا النص الذي ذكره الجهشياري دليل أكيد على أن القراطيس كانت تجلب من مصر في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور وأن ثمنها كان مرتفعا وأنها كانت المادة الرئيسة في الكتابة في دوواين الدولة.
مدن خراسان والورق المأموني نسبة إلى الخليفة المأمون (198ــ218هـ/813ــ833م).
تطور صناعة الورق
لقد تطورت صناعة الورق وأصبحت رائجة ومجزية وتزايدت أسعار النسخ حتى ارتفعت خلال قرن واحد عشر مرات، وقيل إن مالك بن دينار المتوفى سنة 131هـ كان يكتب حتى المصاحف بأجرة، ويروي لنا الخطيب البغدادي أن يعقوب بن شيبة بن الصلت السدوسي المتوفى سنة (262هـ)، كان في منزله أربعون لحافا، لمن يبيت عنده من الوراقين لتبييض المسند ونقله ولزمه على ما خرج من المسند عشرة آلاف دينار.
وقد كسب بعض المشهورين ممن اشتغل بهذه المهنة ثروة كبيرة كما يذكرها الخطيب البغدادي في هذا النص الذي يبين فيه سعر الكاغد وسعر النسخة المبيضة والزمن الذي يستغرقه في الكتابة فيما حدث عيسى بن أحمد الهمذاني قال:
“قال لي أبو علي بن شهاب العكبري (ت428هـ/1037م) يوما: أرني خطك فقد ذكر لي أنك سريع الكتابة، فنظر فيه فلم يرضه، ثم قال لي: كسبت في الوراقة خمسة وعشرين ألف درهم راضية، وكنت أشتري كاغدا بخمسة دراهم فأكتب فيه ديوان المتنبي في ثلاث ليال وأبيضه بمائتي درهم وأقله بمائتي وخمسين درهما”، ويروي ياقوت الحموي أن أبا العباس الأحول كان يكتب مائة ورقة بعشرين درهما، وكان يكتب في طومار تام بسعفة وربما كتب بقلم.
ويروى أن القاضي أبا سعيد الحسن بن محمد السيرافي المتوفى سنة (ت 368هـ) كان لا يخرج إلى مجلس الحكم ولا إلى مجلس التدريس في كل يوم إلا بعد أن ينسخ عشر ورقات يأخذ أجرتها عشر دراهم تكون قدر مؤونته.
وهكذا تطورت صناعة الورق والوراقة وشاع استخدامها في القرنين الثالث والرابع الهجريين وما بعدهما، واشتهر في العصور العباسية بعض الوراقين ببيع الكتب ولذلك كان يقال لهم الكتبيين، ومنهم منصور بن نصر بن عبد الرحيم وينسب إليه الكاغد المنصوري، واشتهر ذلك في العصور العباسية المتأخرة وما بعدها منهم: أحمد بن إبراهيم الوطواط الكتبي (ت718هـ)، ومحمد بن قاضي اليمن شمس الدين (ت 711هـ)، وأبو إسحق بن إبراهيم الفاشوسة المتوفى (ت733هـ)، والمؤرخ ابن شاكر الكتبي (ت764هـ).
أجناس الورق:
القطع البغدادي
وقد ذكر القلقشندي عن صناعة الورق في العراق فقال: “أجمع رأي الصحابة على كتابة القرآن في الرق وبقـي الناس على ذلك إلى أن تولى الرشـــيد الخلافة (170ــ193هـ/ 786ــ808م)، وقد كثر الورق وفشى عمله بين الناس فأمر أن لا يكتب الناس إلا في الكاغد، لأن الجلود ونحوها تقبل المحو والإعادة فتقبل التزوير، بخلاف الورق فإنه متى محي منه فسد وإن كشط ظهر كشطه”، وانتشرت الكتابة في الورق إلى سائر الأقطار وتعاطاها من قرب وبعد واستمر الناس على ذلك إلى الآن.
كما ذكر القلقشندي: “إن أعلى أجناس الورق فيما رأينا القطع البغدادي وهو ورق ثخين مع ليونة ورقة حاشية وتناسب أجزاء وقطعه وافر جدا، ودونه في الرتبة الشامي وهو على نوعين: نوع يعرف بالحموي، وهو دون القطع البغدادي ودونه في الرتبة الشامي، وقطعه دون القطع الحموي، ودونهما الورق المصري، وهو أيضا على قطعين: القطع المنصوري وقطع العادة والمنصوري أكبر قطعا، وقلما يصقل وجهاه جميعا. أما العادة فإن فيه مايصقل وجهاه ويسمى في عرف الوراقين: المصلوح، وغيره عندهم على مرتبتين: عال ووسط، وفيه صنف”.
الورق المطعم
ونوع آخر من الورق يمكن أن نسميه بالورق المطعم، حيث تكون حاشيته من نوع يختلف عن وسطها الذي يكتب به المتن. وعادة ما تكون الورقة الوسطى رقيقة ناصعة البياض صقيله وتكون الحاشية من نوع الورق السميك وتستعمل هذه الأوراق المطعمة في كتابة المصاحف الكريمة وكتب الأدعية والأذكار وغيرها.
وتلصق أوراق الحواشي على الورق الأصلي بمواد لصق مختلفة ثم تصقل وتدلك إلى أن تتساوى وتصبح كأنها ورقة واحدة، وغالبا ما يضاف شريط بالمداد الذهبي أو أي لون آخر على مكان اللصق، وقد تفنن بعض الصناع في تلوين الحواشي وتحليتها بالزخارف النباتية والأزاهير والأغصان.
واستخدم التطعيم كذلك في صناعة الورق المقوى السميك الذي تكتب عليه اللوحات والأدراج الخطية.
استخدام جلود الحيوانات المدبوغة
ولا يفوتنا أن نشير إلى استخدام جلود الحيوانات المدبوغة في كتابة بعض المخطوطات والرسائل بل رسمت عليها بعض التصاوير. كما دبغت جلود الأفاعي واستخدم بعضها في الكتابة، وفي دار المخطوطات العراقية رسالة في الأدعية كتبت على جلد أفعى.
وعلى الأغلب فإن استعمال جلود الأفعى المدبوغة هو وضعها بين الأوراق المزوقة للمخطوطات وهو ما شاع في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) وما بعده، والظاهر أن جلد الأفعى يمنع احتكاك الأوراق الجلدية، إما بحجم أوراق المخطوط، أو تقع على حجم الحلية الزخرفية إذا كانت على شكل شريط زخرفي أو صورة ضمن المتن، وقد استعملت كذلك أوراق رقيقة بدلا من جلود الأفاعي المدبوغة للغرض المذكور،
وإضافة إلى ذلك فقد استعمل نوع من الورق الأبيض غير الصقيل تظهر عليه خطوط مائية أفقية أو عمودية، وأوراق أخرى تحمل رموزا مائية بعضها عبارة عن شعارات على شكل طاووس أو طمغات دائرية أو حروف لاتينية وهذه الأوراق أوربية الأصل استعملت في تركيا وبلاد الشام ولم تستعمل في العراق الإ بشكل محدود.
وقد تم نقل هذه الصناعة من العراق إلى الشام في القرن الخامس الهجري وأحدثت تطورا لافتا هناك حيث يذكر ناصر خسرو في وصف رحلته إلى مدينة طرابلس في لبنان ويقول بأنه يتم تصنيع أوراق رائعة في هذه المدينة تفوق جمالها أوراق سمرقند.
وهكذا كان الدور الكبير للمسلمين في نشر إحدى أهم وسائل الارتباط الثقافي أي الورق. ولم تعرف أوروبا صناعة الورق إلا من خلال المسلمين، حيث وصلت هذه الصناعة إلى هناك عبر مصر والأندلس وقد قاموا بتشييد أول مصنع للورق في إيطاليا نحو القرن الثالث عشر من الميلاد.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
اقرأ أيضاً:
علماء أوزبكستان ودورهم في تطور الحضارة الحديثة