إصداراتمقالات

الوجود الإنسانى … ما لاتعرفه عن المادة والروح

بدأ كحوار بيني وبين صديقي المقرب ونحن نستقل الحافلة في أحد “المشاوير”. كنا نتحدث عن الوجود المجرد لا في مطلقه فالخالق (سبحانه وتعالى) مجرد عن كل ما سواه. ولكن كان حديثنا عن الوجود المجرد للإنسان، فالموضوع غاية في الأهمية وعميق في تفاصيله. طبعا لن أستطيع سرد كل تفاصيل الحوار ولكن كان من أهم الأسئلة التي طرحت: ما هي النتيجة غير المقبولة التي من الممكن أن تترتب على إنكار الوجود المجرد للإنسان؟ فلو أن هناك نتيجة تترتب على هذه الفرضية تناقض الواقع لما هو عليه لوجب مراجعة الموضوع وتحليله لإصلاح الخلل.

النظرة المادية للإنسان

إن النظرة المادية للوجود والتي في معظم الأحيان إن لم يكن أغلبها تميل نحو الإلحاد تسعى جاهدةً لإنكار نقطتين أساسيتين: إنكار أي وجود مجرد في العموم، ولو لم يستطيعوا فسيحاولون إنكار أي عواقب أو محاسبة على أفعال الإنسان في هذا العالم. فلو اقتنع الإنسان بأن هذا الوجود المادي (الذي هو في واقع الأمر ليس إلا عارضا على الإنسان لا ذاتيا له) هو منتهى وجوده وأنه لا حساب ولا معاد فإنه سينتهج نهجا معينا. يتميز هذا النهج في الأساس بانتهاز كل فرصة للتمتع والتلذذ بهذا الوجود المادي لأنه لا وجود بعده مع عدم الاكتراث بتكاليف أو عواقب هذا التلذذ أو السعي نحو التلذذ حتى وإن كان الثمن هو إنسانيته نفسها والعاقبة هي هلاكه الحتمي.

طبعا أي إنسان لا يزال ملاك أمره لعقله يرفض مهما كان فيه من العيوب أن يتسافل لما دون الإنسانية العاقلة والحيوانية الجبرية نحو أن يختار الحيوانية بكامل إرادته. و لما كانت هذه المنزلة بعيدة عن فطرة الإنسان العاقلة المفكرة ولما كان الواقع يعكس محاربة وطمس لتلك الفطرة وجب أن نسأل عن الخدعة والدجل الذي أوقع الإنسان في فخ الشهوانية والهلاك!

نتائج إنكار الوجود المجرد

الفكرة تبدأ عند إجابة السؤال الذي طرحناه سابقا. فإنكار الوجود المجرد ينكر أي وجود بعد الموت فينكر بذلك المعاد والعدل الإلهي والحساب والعقاب والثواب. هذه المنظومة من الثوابت الوجودية إذا ما محيت محي معها الكثير إن لم يكن كل الثوابت القيمية والأخلاقية (القيم النبيلة) فلا تبقى إلا قيمة واحدة هي قيمة المنفعة المادية (قيمة خسيسة). وإذا حدث هذا الانهيار تحولت في الإنسان كل قوته الجبارة في عقله وجسده لخدمة شهواته وتحقيق منافعه المادية. ولا نستطيع إلا أن نلاحظ أن هذا النموذج يحاكي بدقة عالية واقع عالمنا ووجودنا الإنساني.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

 ولما كانت هذه النتيجة التي نشاهدها ونعايشها كانت نتيجة لهذا الفرض (فرض إنكار الوجود المجرد للإنسان). وأن هذه النتيجة لا توصل الإنسان لسعادة حقيقية ولا تسمو بالنظام الاجتماعي نحو العدل والتكامل. بل تأسره في رحى الدنيا وتنكل من كمالاته ومقواماته الإنسانية وتعزز وتقوي من نزواته وتوجهاته الشهوانية والحيوانية وتنشر الشر والظلم وتقوض العدل والفضيلة. وجب أن المقدمة التي بنيت عليها تلك النتيجة هي نتيجة باطلة بدورها.

قد لا نحيط علما بالدلائل الكافية التي تثبت عندنا هذا الوجود وقد نحيط بالدليل الكافي على ذلك. ولكن لدينا الآن وعلى الأقل دليلا حسيا تجريبيا أن انعدام الوجود المجرد للإنسان ينزع الغاية والعدل عن وجوده ويقدح في حكمة خالق هذا الوجود وينسب له العبثية واللهو (و هو مالا يتفق مع كمال المحرك الأول). فوجب من هذا التحليل بطلان انعدام الوجود المجرد للإنسان. ولما كان انعدام الشيء ووجوده نقيضين من حيث أنهما لا يرتفعان ولا يجتمعان، فيلزم من ذلك وجوب وجود جانب مجرد للإنسان.

إن البراهين التي تثبت الموضوع بإنكار نقيض هذا الموضوع لا تعطينا النظرة التفصيلية الكاملة عن الموضوع. فهذا البرهان (لو صح توصيفه بالبرهان) لا يعطينا معلومات عن هذا الوجود المجرد ولكن فقط يعطينا نتيجة اجمالية عن وجوب وجوده كما تقدم. أنا على الرغم من أني أجد في هذا النوع من البراهين القوة الإثباتية التي تبني يقينا راسخا إلا أني حين أنظر لها أجدها بوابات لتفاصيل ومعلومات أكثر تروي عطش وفضول الإنسان نحو طلب المزيد. ولذلك لا أرى الحكمة في التوقف عندها فقط والاكتفاء ولكن في البحث والتنقيب قدر المستطاع أكثر في الموضوع ولكن بشرط عدم الانجراف نحو الأهواء لما قد يناقض المنطلقات والمبادئ.

 

اقرأ أيضا … رياضة الروح

اضغط على الاعلان لو أعجبك

اقرأ أيضا … القراءة غذاء الروح – لا يمكن تخيل حياة تليق بالإنسان دون قراءة واعية

اقرأ أيضا … أنا مكتئب، كيف أستعيد الروح ؟ – وكيف أتخلص من الكم الهائل من الهموم ؟

 

تابعونا على:
يوتيوب
فيس بوك
انستجرام

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.

مقالات ذات صلة