الهُوية..والأصالة..والمعاصرة – فلننقذ الحضارة !
الهُوية فى عرف الحضارة الخاصة بنا عبارة عن لفظ مأخوذ من “هُو… هُو” بمعنى جوهر الشئ وحقيقته، فهُوية الإنسان أو الثقافة هى جوهرها وحقيقتها، وكل شئ إنسانًا كان أو ثقافة أو حضارة فيه الثوابت وفيه المتغيرات، وهُوية الشئ هى ثوابته، والثوابت لا تتغير، تتجلى لتكشف عن ذاتها ولا تُستبدل أو تُزاح عن مكانها لأجل نقيضها، إنها بمثابة البصمة للإنسان، لها مكانها ومكانتها الثابتة طالما بقيت الذات على قيد الحياة.
وكل ثقافة أو حتى الحضارة لها أصالة هى هويتها وحقيقتها؛ فالأصالة هى أصل الشئ وحقيقته ونسبه الذى ينتسب إليه، الأصالة فى ثقافة ما هى جذورها الأصلية الثابتة المستعصية على الفناء والزوال والتغيير.
وكل أصالة ثقافية لها معاصَرَة متميزة، والمعاصَرَة هى تفاعل الثقافة والإنسان مع العصر الذى يعيش فيه، تفاعلًا يضيف به الجديد ويتجاوز به غير الملائم من مواريثه وفق المعايير التى هى أصالته وهُويته؛ فالمعاصَرَة لا تعنى أبدًا تقليد أو استعارة الثقافة المهيمنة فى عصر ما ولكنها الأصالة تتجلى فى طور جديد كالإنسان الذى يتطور دون أن يفقد بصمته التى تميزه عن الجميع، هذا هو منطق الفكر.
وبما أن العالم مُحتضن للكثير من الحضارات كان لزامًا أن تتفاعل فيما بينها وتتعارف من موقع التمايز الذى يحفظ لكل حضارة ما يميزها عن الحضارات الأخرى؛ ولذا ميزت حضارتنا الإلهية بين الثوابت التى تمثل الهُوية وبين المتغيرات، ورفضت الجمود حيث جعلت التجديد قانونًا فى عالمى الدين والدنيا، ولكنها رفضت الحداثة التى تقتلع الجذور وتطمس الهُوية عندما تسوى بين الثوابت والمتغيرات.
حضارتنا ترفض هذه الحداثة التى تقود للتبعية والفناء فى الآخرين كما ترفض الجمود الذى يقود للضمور وتختار عليهما التفاعل والتجديد الذى يقتضى من كل ثقافة أن تُميز بين المشترك الإنسانى العام الذى هو ثمرة الفكر الإنسانى والذى لا تختلف الحضارات فى قوانين علومه وحقائقها وبين الخصوصية الحضارية والتى موضوعها هو النفس الإنسانية المتميزة فى كل حضارة من الحضارات تبعًا لدينها وفلسفتها وآدابها وفنونها وعاداتها وتقاليدها.
إن الغرب عندما كان يقطع طريق نهضته خارجًا من العصور المظلمة والوسطى انفتح على حضارتنا العربية فأقبل بنهم على ما هو مشترك إنسانى عام وانطلق منه وأضاف إليه إبداع حضارى عملاق بينما وقف موقف الشك والحذر والعداء والرفض لما هو من الخصوصية الحضارية لكى يحفظوا لحضارتهم الناهضة هُويتها؛ فتميزت الحضارة الغربية بطابعها المادى وتبنى الثنائية فى الكثير من القضايا التى تميزت فيها حضارتنا بالوسطية.
وفقت حضارتنا بين العقل والنقل وبين الحكمة والشريعة فى حين أخرجت الحضارة الغربية الدين من إطار العقل وأخرجت الدنيا والدولة والعلوم المدنية من إطار الدين.
وفقت حضارتنا بين مصلحة الفرد ومصلحة المجموع واقترنت فيها سعادة الفرد بالمجموع؛ فللفقير حق عند الغنى وللغنى واجب تجاه الفقير، صلاح الفرد وسعادته هو نواة صلاح المجتمع وسعادته والتكاتف من أجل سعادة المجتمع ككل هو ضمان سعادة الفرد، فى حين انحازت رأسمالية الحضارة الغربية للفرد ضد المجموع.
ربطت حضارتنا الأعمال بالحكمة المبتغاة منها ومدى أخلاقية الغاية ومشروعية الوسيلة فى حين جعلت الحضارة الغربية كل اهتمامها بمدى المنفعة المتحققة من الفعل وركزت على اللذة واللحظة.
عرَّفت حضارتنا الإنسان بأنه سيد فى الكون وخليفة عن سيد الكون وهو الله يتقيد بأوامره ونواهيه التى تنير له الطريق، فى حين جعلت الحضارة الغربية الإنسان سيدًا للكون وأطلقت له العنان من كل إطار دينى وخلقى أو قيد سماوى مانحة إياه حرية هى أقرب للبهيمية منها لأى قيمة إنسانية.
إن التفاعل الحضارى فى مناخ صحى يُفترض أن يكون خلاقًا تزدهر به الحضارات عندما تستلهم المشترك الإنسانى العام محافظة على أصالتها وتميزها، أما الغزو الفكرى الذى يحتل العقل ويبدأ بالقسر والقهر ثم تقليد المقهورين للغزاة بسبب انطماس بصيرتهم؛ فإنه لا ينتج إلا مسخًا قد انسلخ من حضارته وثقافته ليتلبس حضارة أخرى قادت إنسانها إلى طريق مسدود عندما حققت له الوفرة المادية والقوة المتعدية، أفقرته فى الروحانيات وجعلته عبدًا للشهوة وأفقدته التوازن الذى هو شرط سعادة الإنسان.
فنحن أمام خيارين، إما أن نختار لنفوسنا هويتها وثقافتها بكل ما تحويه فحضارتنا ككل هى التى تمنح نفوسنا القوة والمعنى أو نختار لنفوسنا التلاشى والضمور.