الهروب من النقد!
ذهب «أفلاطون» إلى أن كل ما يخدع الناس يمكن وصفه بأنه سحر، والفن سحر، لكنه سحر متحرر من سطحيته.. هو جنون وهذيان، لكنه ينقلنا إلى عالم آخر هو عالم المرئيات كما يراه الساحر. هذه الفكرة تكاد تكون بديهية في عالم الفنون؛ فالفنان يتمثل بتشكيله للمادة الميتة (كالخشب أو الرخام أو الطلاء أو غيرها) محتوى إدراكه الذاتي للعالم.
هذا ما نلمسه في لوحة الرسام الإسباني: «بير بوريل ديل كاسو» Pere Borrell del Caso (1835 – 1910): «الهروب من النقد» Escapando de la crítica، إذ ينأى بنفسه عن الرومانتيكية الزائفة التي سيطرت على فن معاصريه، ويتجه مرغما من مثالية الداخل حبيس الرؤى المتعالية الجامدة إلى واقعية الخارج الصارخة الحية، والمتحررة من أطر المجتمع المقيدة بتحديدات الآخر.
يظهر في اللوحة طفل فقير رث الثياب، يتسلق إطار صورته محاولا التحرر منها قفزا إلى العالم الحقيقي خارجها. ربما أراد «بوريل» بلوحته أن يُعبر عن نفسه التواقة إلى الهروب من نقاد الفن المحافظ في عصره، أولئك الذين لا يرغبون سوى في رؤية الشيء في الإطار المحدد له، لكن اللوحة تعكس في الحقيقة ما يكابده كل منا من تجميدات عبر حياته: النظم الحاكمة تجمدك في إطارها: افعل ولا تفعل، فليس في الإمكان أفضل مما كان! شيخك يجمدك: افعل ولا تفعل، فرأينا صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ لا يحتمل الصواب!
البرامج التعليمية تجمدك، منصبك يجمدك، عملك يجمدك، أسرتك تجمدك، الشارع يجمدك، الإعلام يجمدك، جسدك يجمدك.. إلخ. هكذا تتوالى عليك متسلسلة التجميدات، وتظل حبيس الإطار الذي صُمم لك! قد تجد من يعتني بالصورة ويهلل لها في مرحلة أو مراحل، فيزداد التجمد، لكن إطارها قطعا سيبلى، وسيعلو الصورة الغبار حتى تسقط لتحل محلها أخرى لغيرك! حينئذ قد تبحث عن نفسك، عن عقلك، فلا تجدهما! كلنا هذا الطفل، فهل ثمة من يرغب في الهروب؟ في القفز خارج إطاره؟ وما السبيل؟
بلد العميان
ثمة قصة في هذا الصدد هي من أروع ما كتب الروائي الانجليزي «هربرت جورج ويلز» H. G. Wells، عنوانها «بلد العميان» The Country of the Blind، كتبها سنة 1904، لكنها رغم مرور أكثر من قرن على نشرها ما زالت صالحة للإسقاط بسهولة على الوضع الحالي، حيث يسود الباطل حتى يوقن أصحابه أنه الحق!
تحكي القصة عن مهاجرين من «بيرو» هربوا من طغيان الإسبان، وطوَّح بهم القدر حتى أنزلهم واديا نائيا قفرا. ثم حدثت بالوادي انهيارات صخرية عزلتهم عن العالم بسلسلة من الجبال الشاهقة الوعرة تحيط بهم من كل جانب، وانتشر بينهم نوع من أمراض العيون فأصابهم بالعمى، وورثهم الأحفاد في العمى لعدة أجيال حتى نسوا نعمة البصر، لكنهم استطاعوا مع الوقت تكييف أوضاعهم والتأقلم مع حقيقة عدم وجود البصر بالبصيرة وبالسمع وباللمس والإحساس، ونسي هؤلاء تماما أن ثمة ما يسمــــى عضو الإبصار.
الشاب المبصر
وهنا يظهر بطل القصة «نيونز»، وهو شاب مغامر يهوى تسلق الجبال، وتلقي به المقادير في بلادهم. لاحظ الشاب أن البيوت بلا نوافذ، وأن ألوانها فاقعة غير متناسقة! ثم أدرك أنه في بلد العميان، وتذكر القول المأثور «الأعور يصبح ملكا في بلد العميان»، فظن أن بإمكانه أن يجد مكانه هنا لأنه الوحيد المبصر بينهم!
لكنه حاول مرارا أن يقنعهم بأنهم عميان، وبأن ثمة نعمة يفتقدونها تسمى نعمة البصر، وراح يحدثهم عن السماء الزرقاء فوقهم وجمالها، والنجوم الساطعة وضيائها، والثلوج المعممة للجبال وبياضها ولمعانها، لكنهم لم يصدقوه واعتبروه مجنونا، وجزموا أن ما يحدثهم به عن قوة عينيه ورؤيتها لهذه الأشياء ليست إلا ضربا من الخداع والوهم!
حاول الشاب المبصر بكل ما يستطيع من قوة وبيان أن يُفهمهم أنهم عميان فاقدو البصر، فلم يزدهم ذلك إلا عتوا وضلالا. وإمعانا في الضحك منه والسخرية به قالوا: لو كان في رأس هذا الرجل عقل لتخلى عن هذه الأوهام، ووجه همته إلى الواقع الفعلي بدلا من انتقادنا، ولَقوّى سمعه حتى يبلغ مبلغنا ويتبع المنهج الذي عليه أجمعنا!
حاول الفرار فلم يستطع، واضطر للعودة إليهم بعد جهد وجوع وظمأ ليقر بخطئه ويضع نفسه تحت تصرفهم؛ قبلوا اعترافه بالخطأ وتقبلوا وجوده بينهم ببساطة. وبعدها صادف المغامر فتاة من العميان كانوا يعتبرونها قبيحة لأن وجهها مدبب ولها أهداب طويلة، مما يخالف فكرتهم عن الجمال! لكنه رآها أجمل فتيات المدينة على الإطلاق. أحبها بصدق وتقدم لخطبتها، فأسقط في يد أبيها: هل يرضى بالمجنون الذي هبط عليهم من غير موعد؟ أم يرفضه ويترك ابنته القبيحة (كما يظن) بلا زواج؟!
حين تكون عاقلا في زمن الجنون
طلب مشورة حكيم البلد، فكان رد الحكيم بعد فحص الشاب بأن سبب جنونه هو عضوين مزعجين في وجهه أعلى أنفه (يقصد العينين)، وأن لا شفاء له إلا بفقئهما ليعيش طبيعيا مثل باقي سكان القرية.
رفض «نيونز» بإصرار، وراح يصف لحبيبته في محاولة يائسة كل متعة الإبصار، والجمال الذي يراه بعينيه، لكنها بدورها راحت تتلمس يده برقة وتقول إنها تحب خياله، ولكن عليه أن يُضحي إن كان يحبها حقا!
وتحت ضغط الحب يقبل الفتى مستسلما الخضوع لعملية استئصال عينيه، لكن حب الحياة ينتصر في آخر لحظة، ويُجرب للمرة الأخيرة الهروب من الإطار، من أرض العميان.. وينجح في النجاة!
الشاهد: حين تكون عاقلا في زمن الجنون، متعلما في زمن الجهل، مبصرا في أرض العميان، فاعلم أنه قد حُكم عليك بأن تشقى، وأن تُتهم بالجنون والتهور والخيانة والعمالة والهرطقة.. إلخ، فإما أن تستسلم وتصبح مثلهم، حيث العذاب الأبدي المقيم، وإما تسعى للخروج من الإطار! تلك هي بلاد العرب.. فأنَّى الفرار؟!
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
اقرأ أيضاً:
الأفعال البشرية بين العقلانية والمعقولية: هل العقلانية نقيض المعقولية؟