إصداراتمقالات

النيتشاوية المجتمعية

إنّ كل عصر له قدر من الارتباط والتأثر بنسبه ما بما يسبقه من عصور سواء كان بالسلب أو الإيجاب، فتجارب وأفكار السابقين لها من الآثار ما لا يمكن تجاهله. فمع تطور فكر وفلسفة المجتمعات ونظرتها إلى الوجود كان في كثير منها امتداد لما سبق في زي عصرها، وخصوصا النظرة إلى الوجود في فلسفة ما بعد الحداثة والتي تأثرت بشكل كبير بفلسفة نيتشه، حتى اعتبر البعض أنّ فلسفة ما بعد الحداثة ما هي إلا فلسفة تدور في فلك نيشته، مثال ذلك النزعة الشكية والتي لا تقبل أن تكون هناك حقائق أخلاقية أو قواعد كلية تقوم على العقل إنما هي الأحكام الجزئية المبتسرة التي تقوم وتلبي حاجات الناس في حينها، والنظر إلى أنّ الحقائق الأزلية ليست أكثر من معتقدات مفيدة مؤقتا. نتيجة لذلك أصبح – للأسف – الشائع اليوم في مجتمعنا افتقاد المنطقية والمعيارية والمنهجية في التحليل، حتى أصبح المعيار والمنهج هو التمرد والخروج عن المعيارية ورفضها والميل الى النسبية الإبستمولوجية وتبنيها وإلى هوس الانسان بنفسه وجنونه بمعرفته، مما أصاب المجتمع الحديث بأزمات متلاحقة سواء كان خروجا عن الدين والنظرة إلى أن الإيمان بوجود إله يعد تحقيرًا للحياة وازدراءً للإنسان وهروبًا من المسئوليات الملقاة على عاتقه وعودة إلى عصر العبودية.

وأصبح هناك توجّه محاربة الإله وكأنه شخص يجلس على صدورنا وافتخار البعض بمحاربته كحال نيتشه في مقولته الشهيرة لقد قتلنا الإله وهو عمل جد عظيم، فيجب أن نكون نحن الآلهة بعد هذا العمل الذي ليس أعظم منه، ولكن على أي حال إنّ تصاعد تلك اللهجة بين المثقفين والشباب باختلاف حدة التعبير هو من الأزمات المعرفية التي يواجها الإنسان في هذا العصر وهي النظر إلى أن تصبح المعرفة والقيم والمعايير نسبية بل ونمو فكرة التمرد وقولبتها في قالب الحريات والإبداع  وربما أيضا السعي لدى البعض إلي السوبرمان أو الإنسان المتميز بالقوة كما في الثقافة النيتشاوية، وتتمثل هذه القوة في الإرادة الجبارة وفي مباشرة السلطان، وبالتالي كان الإيمان هو نوعا من الخضوع والذل والامتهان لكرامة الإنسان وأن يصبح الإنسان ممتهن الكرامة خاضعا وذليلا، وكأن الإله هو سلطان أو أحد الجبابرة، وكأن الخضوع للقواعد والمعيارية هو الذل أو المهانة نتيجة لفهم خاطئ للإيمان وللمعيارية، وكأن التقدم والحداثة لا تتأتى لأن تحدث إلا بالمفاخرة والخروج عن المألوف، وكأن هذا الخروج هو خروج عن المألوف والمعيار مع إنه في حد ذاته هو خضوع لمعيار آخر هو النفس ورغباتها الخبيثة المتسافلة والحكم على خطأ تلك المعيارية والحكم بخلافها لا يتأتى إلا من خلال معيار وإن أنكره المعاند.

يضاف لذلك الهوس بالقوة والبطش لدى البعض والسعي حتى ربما لتطويع الأديان وفرض تفسيرات متطرفة وذلك لحلم القوة، حتى ربما خرجت بأحد أثوابها بالإيمان المتطرف المقدس لفلسفة القوة والسعي إلى الإنسان الكامل والسوبر والدولة السوبر دولة الخلافة لبعض التنظيمات المتطرفة من منظورهم والتي لا تقوم إلا على البطش والقتل وعلي الخروج عن المعيارية في البحث والخضوع للعقل العرفي المتذرع ببعض النصوص وتفسيراتها والمفتقد لضوابط والمعايير في تفسيرها مما يجعل تفسيرها في حالة من المزايدة والتطرف والمبالغة في التطرف وذلك كان نتيجة غياب المعاير المنطقية والمنهجية في المعرفة فاعتقاد البعض بأن المعيارية هي ضد التقدم والتطور وأنها وجه لتحجر، فخضوع الإنسان لمعيار هو أمر لا بدّ منه فمجرد حكمه بخطإ شيء أو استحسانه لشيء هو اعتراف في باطنه بالمعيارية والضوابط .

لقد أصبحت الأمة تقع بين تيارين الأول المتبني للنسبية المعرفية وكأن هذه القاعدة هي المطلق الوحيد وخلافه نسبي، والتيار الاخر المتمسّح بالدين من أجل رؤية الإنسان الأعلى ومن أجل إظهار تفوقه أو السوبر مسلم مان وذلك من أجل التفوق والتسلط لا الحق، وتتخبط أمتنا وحضارتنا بين التيارين وتظل معاناتنا من افتقاد المنهج تحت مسميات متعددة ونصبح نحن حاملي ميراث نتشه بأبشع أشكاله. فتبني مجتمعنا لها ما هو إلا ضرب من الجنون ومزيد من الصراع والدمار والخراب ومزيد من التفكك.

فالحل في أن يبدأ الإنسان في البحث عن الضوابط والقواعد والأسس المنطقية ووضع معيار وميزان لتميز بين الحق والباطل فكما استطاع البعض أن يصل إلى فكرة النسبية أو السوبر مان وحكم البعض بصحتها وتبنيه له ما هو إلا وجه من أوجه اقتدار الإنسان للوصول إلى بعض الحقائق وإيمانه بها بشكل مطلق فلنبدأ بأبسط وأبده البديهيات العقلية فهو العقل لا سواه، كما فعل سقراط وأرسطو في زمانهم لإنقاذ المجتمع من السفسطة، فهل من أرسطو لهذا العصر؟!

اضغط على الاعلان لو أعجبك