النميمة وفراغنا
لو وقف كل منا أمام المرآة ونظر لنفسه وسألها: هل لم تجد كلاما آخر تتحدث به مع زميلك أو صديقك غير النميمة على الآخرين؟ فماذا يكون ردنا على أنفسنا؟
كثيرٌ من النميمة التي نسمعها وتلوكها ألسنتنا ونشارك فيها قائلين أو سامعين قاصدين أو غافلين علتها الفراغ، فحين تلتقي أصدقاءك فأسهل شيء تتكلمون فيه هو الحديث عن الآخرين.
بعض النميمة حقد، وبعضها تملُّق، وبعضها نَزَقٌ وحُمْقٌ ولحظات غباء وانجرار لحديث سخيف يندم العقلاء لاحقا على الخوض فيه والاستماع إليه، فهلَّا قَدَرَ العقلاء على الابتعاد عن السبب الأول للنميمة وهو الفراغ؟ إذا شملتك لحظة فراغ بأحد الناس أيا كانت علاقتك وقرابتك به فهلا تذكرت أنه ليس من الواجب عليك أن تتحدث في كل الأوقات؟ إن صمتَك وصمتَ جليسِك ليس عيبا ولا قلة ذوق ولا يضر بحسن الضيافة أو متانة الصداقة طالما لا تجدان حديثا غير النميمة.
وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) صحيح البخاري (8/ 11).
ويقول ابن جبير الشاطبي (توفي 614هـ):
بيان المرء بالإكثار عيبٌ وعُقْبَى الصمتِ أقربُ للبيان
وما في الأرض إن فكَّرْتَ شيءٌ أحقّ بطولِ سجن من لسان
الفراغ عاملا هاما في النميمة
هذا الفراغ الذي انتبه له أعداء أمتنا فأحسنوا استغلاله ضد مصالح أمتنا، فما انتشرت المفاسد إلا في الفراغ، وانتبه له المخلصون فحاولوا جاهدين صرف نظر المجتمع إلى أهمية استغلاله فيما يفيد، وتاه المجتمع في فراغه فاستغل قدرا كبيرا منه في الكلام الذي لا يتوقف وجزءا كبيرا منه في النميمة، وصدق ابن القيم: (النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 82).
أنا لا أتهم أحدا، ولا أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء، بل أنبه أن الفراغ قد يكون عاملا هاما في النميمة التي تؤدي في النهاية إلى الكراهية وتفسد العلائق الاجتماعية.
من منَّا لا يجد صدى هذه الكلمات في نفسه، من منا لم يركب سيارة أجرة فناله من صداع المتكلمين في السيارة، إن سيارة الأجرة تحمل خمسة عشر شخصا كلهم أو أغلبهم لا يتوقف عن الكلام وكثيرا ما نَمَتْ إلى آذاننا كلمات النميمة التي تملأ أفواه المتحدثين عن أشخاص ينالهم الذم والقدح وسوء الظن،
إننا لو توقفنا عن ملء فراغنا في المحادثات بالنميمة لاستطعنا تجنب كثير من المشاكل، ولشعر كل منا باحترام ذاته، وماذا نستفيد من النميمة غير الشكِّ في أعز أصدقائنا، فإننا مباشرة ندرك أنهم طالما جلسوا يحدثوننا بالساعات عن فلان وفلان أو يسمعون منَّا النميمة فإنهم سينُمُّون علينا، حتى لو قلنا: كل الناس تَنُمُّ لكان هذا الكلام صادقا نوعا ما.
يقول محمود سامي البارودي (توفي 1904م):
لَوْلا النَّمِيمَةُ لم يَقَعْ بَيْنَ امْرِئٍ وأَخِيهِ مِنْ بَعْدِ الْوِدادِ عِداءُ
فإذا تذكرنا قول رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ» صحيح مسلم (1/ 101) كان ذلك مدعاة لنا أن نستعين بالله على ترك النميمة وملء فراغنا بما يرضي الله عز وجل، وهنا أجد في نفسي خاطرا أن الله ما أمرنا بذكره كثيرا إلا ليبتعد المسلم عن مثل النميمة ويشغل نفسه بعبادة ربه الذي خلق فسوَّى وقدَّر فهدى.
وكن كما قال ابن أبي حُصَيْنَة (توفي 457هـ):
لَستُ امرَأً غِيبَةُ الأَحرارِ مِن شِيَمي وَلا النَميمَةُ مِن طَبعِي وَلا دِيني
دَعني وَحِيداً أُعانِي العَيشَ مُنفَرِداً فَبَعضُ مَعرِفَتي بِالناسِ يَكفِيني
ما ضَرَّنِي وَدِفاعُ اللَهِ يَعصِمُني مَن باتَ يَهدِمُني فَاللَهُ يَبنيني
اقرأ أيضاً:
أسوأ الشخصيات التي تعاملت معها
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا