النفاق من المسرح إلى الحياة العامة
تُدين العديد من الشرائع الدينية -السماوية منها والوضعية- النفاق “Hypocrisy” ويرى الإسلام أن المنافقين يخدعون أنفسهم ولا يخدعون الله بادعائهم الإيمان والسلام، والمنافقون يكسبون لبعض الوقت ويتأثر ضعيفو الإيمان بتفوق المنافقين وصعودهم في مجتمعاتهم، ومن ثم يرى الإسلام أن النفاق آفة خطيرة على المجتمعات والسلم الاجتماعي فيها.
ويرى العهد القديم أن هناك ترادف في سفر أيوب بين المنافق “chaneph” والكافر أو الدّنِس. وكذلك الأمر في العهد الجديد “إنجيل متى 7: 5″؛ حيث تمت إدانة المنافقين. وفي الديانات الوضعية، كالبوذية “Dhammapada” مثلاً، تم إدانة الذي يتظاهر بالزهد وهو عكس ذلك تمامًا.
كلمة “هيبوكريسيس”
ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى أن كلمة “المنافق” الإنجليزية “Hypocrisy” أتت من الكلمة اليونانية ” ὑπόκρισις = hypokrisis ” والتي تعني الكثير من المعانى، من بينها التمثيل، المُخادع والمنافق.
وأن الكلمة اليونانية نفسها ” hypokrisis” مُشتقة من الكلمة المُركّبة “ὑποκριτής = hypokritēs”، والتي تتكون من المقطعين “hypo” والكلمة “kritike” واللذان يعنيان معا “الحاذق أو الماهر في الحديث أو التوصيل أو الماهر في التمثيل والأداء”.
وفي المسرح اليوناني كان يتم مدح أداء المُمثل المسرحي التقني بأنه “هيبوكريتيس hypokrites أو هيبوكريسيس hypokrisis”، أي أنه قادر على أداء أدوار لشخصيات مختلفة بتفوق ومهارة.
ولكن يبدو أن الخطيب اليوناني الكبير ديموسثينيس “Demosthenes”، في القرن الرابع قبل الميلاد، كان سببًا في تغيير هذا المعنى وتحوله من المدح إلى القدح، حيث سخر من منافسه المُعاصر الخطيب أيسخينيس “Aeschines”، والذي اتجه للعمل بالسياسة، بعد أن كان ممثلاً بارعًا حاذقًا، فوصفه ديموسثينيس بأنه منافق؛
وذلك لبراعته في تجسيد شخصيات عديدة على خشبة المسرح، ولقد كانت براعته في التمثيل من قبل سببًا فى براعته في مجال السياسة وأداء الأدوار المنوطة به، هذا فضلاً عن جدارته في كسب الجمهور من حوله، سواء بالاستعطاف أو جمال الأداء التمثيلي؛ ومن ثم فهو شخص غير جدير بالثقة.
ويبدو أن هذا الوصف والتوظيف الجديد لكلمة “هيبوكريسيس hypokrisis” كان سببًا في ذيوع النظرة السلبية للممثلين في روما، وازدرائهم هناك؛ بوصفهم منافقين.
انتشار النفاق في أوروبا
وفي أوروبا في القرن الثامن عشر، عصر التنوير، انتشر النفاق في شتى مناحي الحياة، وبخاصة في الحياة السياسية، حتى غدا للنفاق أثرًا ووجودًا في الحياة العامة الأوربية، ومن ثم تناوله بالنقاش الأدباء والكُتاب في أعمالهم، وصار أحد القضايا الهامة والجديرة بالنقاش في الأعمال الأدبية،
وبخاصة لدى كل من فولتير “Voltaire”، وروسو “Rousseau”، و مونتين “Montaigne”. والذين رأوا في بذخ الطبقة الأرستقراطية، ومناهضة الفكر وإعمال العقل من عوامل ظهور النفاق في المجتمعات، هذا إلى جانب خنوع الطبقات الدنيا، وشعورها بالدونية وهوسها بالرتب والألقاب، ومحاولاتها تملق ونفاق أصحاب النفوذ والقرارات.
وفي القرن الحالي، وبالتحديد عام 2012 أخرج المؤرخ الأمريكي كتابه ” قيمة الكذب.. عن الكذب في مجال السياسة The Virtues of Mendacity: On Lying in Politics” إلى النور، والذي رصد فيه محاولات الكُتّاب تسجيل وتتبع ظهور ظواهر النفاق والتملق والخداع والكذب والافتراء والغش والعيش على مجد مستعير والتنكر للتعهدات والاتفاقيات والتمثيل أمام الآخرين على مر العصور، حتى خلص في نهاية كتابه، إلى أن السياسة جديرة باستخدام كل هذه الظواهر وأنها من عوامل ظهورها وانتشارها في المجتمعات، بل إن هذه الظواهر من عوامل هدم المجتمعات واندثارها.
إن الكذب أداة من أدوات النفاق التي لا يمكن أن يتخلى عنها أي منافق، والقُدرة على التلوُّن والتحوُّل وإعمال العقل للخداع صِفة أصيلة في المنافق، فهو دارس بشكل جيد لطبيعة النفس البشرية، والتي تميل بطبعها إلى اختيار المظهر على الواقع، وذلك بسبب ميلها إلى الكسل، ومن ثم يتظاهر المنافق أمام البشر بما يحبون أن يبدو الأشخاص أمامهم وليس بما هم عليه في واقعهم.
اقرأ أيضاً:
الكيتش والحمقري.. في دفء الأكذوبة!
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا