هل من المعقول أن يكون أصل الإنسان قرد في البداية؟ النظرية الدارونية العجيبة
تعتبر نظرية التطور لصاحبها تشارلز داروين من أهم النظريات العلمية في العصر الحديث النظرية أحدثت ثورة عارمة في علم الحياة ” البيولوجي ” يحب أن يقارنها البعض بالثورة الكوبرنيقية التي أحدثها نيكولا كوبرنيكوس في علم الفلك حين قال أن الأرض هي من تدور حول الشمس وليس العكس، على أي حال فالنظرية تحتل مكانا مهما جدا في تاريخ الفكر البشري بل إننا لن نبالغ إن قلنا أن نظرية التطور -التي كشف ملامحها للعالم داروين في عام ١٨٥٩ في كتابه “أصل الأنواع” هي من أهم المحطات في تاريخ الإنسانية وذلك ليس لأثر النظرية البيولوجي فقط بل أيضا بسبب الصدى الواسع الذي تسببت به النظرية في شتى مجالات الحياة، فظهر ما يعرف الداروينية وهو مذهب يدين لنظرية التطور بالولاء ويرى التطور عاملا فعالا في كل شيء وفي كل مجالات الحياة المختلفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بل وحتى الأخلاقية.
ما هو التطور الذي ولد الداروينية؟ لا بد أن نجيب عن هذا السؤال قبل الشروع ببحث اتجاه الداروينية، ومع أنني لست من المتخصصين في علم الأحياء إلا أنني سأحاول أن أنقل فهمي للنظرية وفق فهمي المتواضع، النظرية باختصار تحاول أن تفسر الطريقة التي نشأت بها الكائنات الحية، فالنظرية تقول أن المخلوقات من حولنا لم تتخذ هذه الهيئة التي نراها اليوم دفعة واحدة وإنما تطورت الكائنات الحية عبر ملايين السنين لكي تتخذ هذه الهيئة التي نراها اليوم، وهذا التطور الديناميكي يحركه عدة عوامل أهمها على الإطلاق ” الانتخاب الطبيعي ” وهو مبدأ بسيط من الممكن أن نلخصه في كلمتين “البقاء للأصلح” فالكائنات التي بقت حية وتطورت هي الكائنات التي كانت لها القدرة على التكيف وعلى الصمود أمام وحشية الطبيعة وما عدا ذلك قد هلك إلى الأبد وهذا يفسر انقراض عديد من المخلوقات عبر تاريخ الأرض الطويل والذي يقدره العلماء بملايين ملايين السنين.
المدهش في التطور والصادم أيضا أنها كنظرية أرغمت الإنسان على كبح جماح غروره لأن النظرية تدعي بأن الإنسان والقردة العليا تشترك في سلف واحد تطور عنه الإنسان والشمبانزي على السواء أي أننا نحن البشر والقردة الأفريقية العليا أبناء عمومة من وجهة نظر التطور، وهذه النتيجة الصادمة كان لها أثرها الكبير على كل مناحي الحياة الإنسانية فكانت هذه النتيجة نفسها هي الداعي والسبب الأول لظهور ما يعرف اليوم باسم الداروينية.
الداروينية هي الوجه العملي لنظرية التطور أو إن شئت قل الفهم التطوري لكل من الاجتماع والاقتصاد والأخلاق أيضا وقد سبق أن أشرنا إلى مفهوم الداروينية والآن حان وقت التعرف إليه أكثر وفهمه أكثر وسبر أغواره لنرى ما هي الوعود التي تطلقها نظرية التطور على المستوى الإنساني وما مدى رجاحة التوفيق بين النظرية العلمية وبين العلوم الإنسانية المختلفة، فالنظرية كما أشرنا أوضحت مدى القرابة أو التشابه بين الجنس البشري وبين القردة العليا فأصبح ينظر للإنسان اجتماعيا على أنه حيوان لا يختلف في النوع عن باقي الحيوانات -خصوصا الأكثر تطورا منها- وإنما فقط يختلف في الدرجة، في الدرجة التي وصل إليها تطور الإنسان، فقد تطور الإنسان -كما يرى الدارونيون- ليمتلك دماغا كبيرة سمحت له أن يطور النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية والفلسفية، ذلك أن الفهم والوعي عند التطوريين لا يمكن أن يفهم إلا من خلال المادة وقوانينها وبالتالي تصبح الحياة البشرية جمعاء والوعي البشري بأسره عبارة عن معركة للبقاء يبقى فيها الأصلح ويفنى فيها غير القادرين على مواكبة التطور البشري وحركة الانتخاب الطبيعي.
ومن أهم الجوانب التي ألقت فيها الداروينية بظلالها الجانب الاجتماعي فظهر ما يعرف بالدارونيين الاجتماعيين وهم من يعتقدون بأن المجتمع البشري ككل تتحكم فيه قوانين الطبيعة وقانون الانتخاب الطبيعي وبالتالي تتحقق مقولة توماس هوبس الشهيرة ويصبح ” الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان ” ذلك لأنه لا مجال للحديث عن أي مجال للتراحم الاجتماعي في ظل الداروينية وهذا بالفعل ما تم تطبيقه في العصر الحديث ونرى صداه في التصفيات العرقية في آسيا وأفريقيا وكذلك في أوروبا في الحرب العالمية الثانية في عهد النازية الألمانية والمذابح المروعة التي ارتكبت بحق اليهود وكذلك نرى الصهيونية وما ترتكبه من جرائم في حق العرب، كل هذا وأكثر هو مجرد صدى لهذه الطريقة في فهم الحياة الاجتماعية فالنازي مثلا لم يكن يقتل اليهود لأنهم يهودا، بل كان النازي يرتكب هذه الجرائم في حق اليهود لأنه يعتقد أنهم “أفواه تأكل ولا تنتج” وبالتالي نرى مدى وحشية التفكير الاجتماعي تحت ظلال التطورية، والفارق الوحيد بين هذه الأفعال وبين نص النظرية التطورية أن النظرية تقول بأن الانتخاب يكون طبيعيا من فعل الطبيعة ولكن الإنسان المعاصر قرر أن يحتل مكان الطبيعة وأن ينفذ بإرادته نص النظرية وينتخب هو من يبقى ومن يفنى، ففي بدايات القرن العشرين مثلا كان في إنجلترا مشروع يهدف إلى منع الضعفاء من الإنجاب والتكاثر عن طريق عمليات عقم إجبارية، وهناك العديد والعديد من الظواهر التي من الممكن أن ندين بها الفهم التطوري للعلوم الاجتماعية والمجتمع البشري، فعلماء البيولوجى إن كان يطربهم الانتخاب الطبيعي في المجال العلمي كعلماء فهم بالتأكيد يرتعبون من فكرة جعل قانون الانتخاب الطبيعي قانونا اجتماعيا.
وكما في الاجتماع كان للداروينية أثر اقتصادي، ولو أنه ليست هناك النظرية متكاملة حول الاقتصاد الدارويني إلا أنه في العصر الحديث تم تشبيه الرأسمالية المتطرفة بالداروينية في نواحٍ عديدة، ذلك لأن جوهر الداروينية هو البقاء والصراع الديالكتيكي في سبيل الغلبة وفرض السيطرة، كذلك هي الرأسمالية الحديثة الآن التي لا تعبأ كثيرا بالفوارق بين الطبقات وكل ما تهتم به هو الربح النهائي مهما كانت الضحايا البشرية، فالسوق العالمي مكان غير أخلاقي بالمرة لا يوجد فيه مكان للقيم الإنسانية النبيلة لذلك كان التطوريون الاجتماعيون أكثر ميلا واقتناعا بالنظرية الرأسمالية المتطرفة أكثر من أي نظرية اقتصادية أخرى، ذلك لأن الدارويني يهتم فقط بالبقاء؛ فهو القانون الأعم والأشمل في هذه الحياة وتنتفي لديه كلمات مثل العدالة الاجتماعية أو التكافل الاجتماعي فهي كلمات لا تخدم المنظور التطوري للعالم وتتعارض معه لما تحمله من قيم مثل المساواة والرحمة والعدالة التي لا يمكن فهمها أبدا بطريقة تطورية.
نأتي الآن إلى الجانب الأهم والأبرز من الفهم التطوري للحياة البشرية ونقصد بالتحديد الفهم التطوري للأخلاق الإنسانية وربما أبرز الفلاسفة المتأثرين بالروح التطورية في فهم الأخلاق هو الفيلسوف الألماني #نيتشه صاحب كتاب إرادة القوة وكتاب ما فوق الخير والشر وهذه الكتب يتحدث فيها نيتشه بطلاقة عن رغبته في هدم الأصنام التي صنعها الإنسان ومن أهم الأصنام التي يسعى نيتشه إلى هدمها صنم الأخلاق، والأخلاق في رأي نيتشه لا يجب أن ينظر إليها نظرة دينية ” المسيحية في نظر نيتشه ” فأخلاق التسامح والمحبة والإخاء التي تدعو الأديان إليها يرفضها نيتشه ويثور عليها ثورة عارمة ويعلنها صريحة بفشل هذه الأطروحات التسامحية ويعلن عن رغبته في خلق إنسان أكثر قوة ووحشية وبطشا يتصرف وفق قوانين الطبيعة وأهمها على الإطلاق قانون الانتخاب الطبيعي أو قانون التطور الذي يجب أن يحكم الحياة الإنسانية كافة -من وجهة نظر نيتشه- ويجب أن يعمم ليشمل كل تفاصيل الحياة الأخلاقية الإنسانية.
هذه باختصار نظرة سريعة على أهم ما قالته الداروينية عن الاجتماع والأخلاق وهي نظرة غير كافية لفهم هذا التيار في تاريخ الفكر المعاصر ولكنها نظرة أتمنى أن لا تخلو من الموضوعية ولذلك يجب أن نتم بحثنا وسطورنا إلى النهاية ونقول أنه قد حاول البعض خصوصا في السنوات الأخيرة تفسير الأخلاق بمنظور تطوري أكثر إنسانية من ذلك المنظور النتشوى الغاشم، فالتطور من وجهة نظر علماء اليوم هو عبارة عن تحكم ما يسمونه ” الجين الأناني ” في تصرفات المخلوقات والكائنات الحية جمعاء، وهذا الجين الأناني هو ما يحث الكائنات الحية على النضال والصراع في سبيل البقاء وهذا الجين له أثر في كل تصرفات الكائنات الحية، فكل تصرفات الكائنات الحية يجب أن تفهم بطريقة أنانية، ولكن عند مراقبة العلماء لسلوك الكائنات الحية وجدوا أن الحيوانات لا تتصرف دائما وأبدا وفقا لهذه القاعدة بل أن الحيوانات أحيانا كثيرة تتصرف بطريقة أخلاقية كأن تدافع الأم عن صغارها مثلا وتضحي بحياتها في سبيل ذلك، هذا لغز حير الكثير من العلماء التطوريين حتى حاولوا أن يهربوا فقالوا بأن الحيوان يفشل جينه الأناني في مراحل متقدمة من تطوره ويحدث ما يسمى ” بالانتخاب العشائري ” أي أن الحيوان ينتخب ما هو من فصيلته ويختار أن يضحي في سبيله لإنقاذ العشيرة أو النوع من الانقراض، فإذا ما حللنا هذه النتيجة وطبقناها على الإنسان نرى أن الإنسان قد تجاوز ذلك كله، فالإنسان قد يضحي بحياته في سبيل إنسان أو حتى كائن آخر لا تربطه به أي صلة مسبقة وقد يذرف الدموع لتأثره بمأساة سمع بها أو قرأ عنها؛ ذلك أن الإنسان في هذه الحالة ووفقا للفهم التطوري للأخلاق، يفشل الجين الأناني فشلا كليا فيه فقد تطور الإنسان -كما يرى التطوريون- وتخطى مرحلة الجين الأناني، لقد تجاوز الإنسان قوانين الطبيعة وتطور أخلاقيا وخلق عوالم أفضل وأنبل للحياة الاجتماعية والأخلاقية غير تلك التي يحكمها قانون الانتخاب الطبيعي القاسي.
ولو شئنا تحليل الفهم التطوري للأخلاق والاجتماع والحياة الإنسانية عموما سنجد أنه فهم مضحك، لأن الفهم التطوري للحياة والإنسان وضع الإنسان في خانة ضيقة جدا وهي الخانة المادية، وذلك لأن الدارونيين يهملون الجانب المعنوي من الإنسان، فقد عرف الحكماء الإنسان بكونه حيوانًا ناطقًا أو حيوانًا عاقلًا، له جسد يتكامل بالكمالات المادية بالمأكل والمشرب ولكنه أيضا يتفوق بجانب معنوي عقلي سمح له أن يقيم الحضارات والفلسفات والنظم السياسية والأخلاقية والاجتماعية المختلفة تجعلنا نشك في أن الحيوان والإنسان مشتركان في النوع وأن الإنسان فقط يختلف ويتقدم في درجة تطوره، فلا يمكن أبدا فهم الوعي البشري بطريقة مادية، ولا يمكن فهم الإدراك العقلي بطريقة حسية أبدا وأعني بالإدراك العقلي إدراك المعاني الكلية كالعدل والحب والحرية.. هذه المعاني وغيرها الكثير لا توجد في العالم المادي بذاتها وإنما هي توجد فقط في عقل الإنسان بعد أن استخلص الإنسان هذه المعاني من الجزئيات المختلفة الموجودة حوله في الحياة، كمن يستخلص معنى الحب مثلا من مشهد احتضان الأم لطفلها، فالمشهد نفسه مادي لا يمكن أن يفسر على أنه يعبر عن الحب فنحن نرى أن هناك كائنًا حيًّا يمسك بكائن حي آخر، أما معنى الأمومة والطفولة والحب والرحمة كل هذه المعاني يستنبطها العقل القادر على تجاوز المشاهدات المادية البسيطة لنستنتج منها معاني كلية وقيمًا إنسانية
ولو شئنا إلقاء الضوء على الفهم الدارويني للأخلاق مثلا سنرى ما فيه من تهافت وضعف بحيث أن الداروينية ترى بأن الإيثار والمحبة والتسامح والرحمة وكل هذه القيم الإنسانية هي نتاج فشل الجين الأناني في الإنسان وتجاوز الإنسان لطبيعته، وكأن الإنسان -بهذا المعنى- صار أدنى من الحيوان، ولا يمكننا أن نطمئن لهذا الفهم التطوري للأخلاق وللقانون الاجتماعي بل يجب أن نحلل الأخلاق تحليلا منطقيا لنرى مدى صحة هذه الإدعاءات فنحن لا نستطيع أن نرد كل الأفعال الإنسانية إلى الرغبة في البقاء كما أسلفنا لأن الإنسان كثيرا ما يضحي بحياته في سبيل الآخرين ولا يمكننا فهم تلك التضحية والنبل عن طريق الرغبة في الانتخاب العشائري عند الحيوان -مع أن مظاهر التسامح بين الحيوانات حتى قد تراها بين الأنواع المختلفة من الحيوانات- فالإنسان لا يمكن فهم تصرفاته في ظل الرغبة في البقاء وفقط بل إن للإنسان أفعالًا يعجب لها العقل البشري نفسه أحيانا، انظر مثلا إلى سقراط الذي فضل الإعدام على خيانة مبادئه وتلقى السم بأعصاب هادئة ليرحل في سلام، دعنا نحلل هذه التضحية السقراطية مثلا، فلا يمكننا أن نقول أن سقراط كان يرغب في البقاء المادي وإنما كان يرغب في بقاء المعنى والقيم الإنسانية، لقد رغب سقراط أن يعلم تلاميذه الحكمة حتى وهو في انتظار الموت ولا يمكن أن يفهم هذا الموقف تطوريا، بل إن للإنسان عقلًا راجحًا يحسن الحسن ويقبح القبيح أو ما يعرف باسم الضمير البشري لا يمكن اعتبار تلك الحاسة الأخلاقية حاسة مادية بل هو الزام عقلي ينافي كل قواعد المادية ويتخطاها إلى ما هو أوسع من الأفق المادي التطوري الضيق للأخلاق، بالتالي نرى أن الفهم التطوري للأخلاق لا يفسر تصرفات الإنسان تفسيرا دقيقا بل هو يتعارض معه في أكثر الأحيان
لا شك بأن نظرية التطور من أهم النظريات العلمية في العصر الحديث ولكن الفهم التطوري لكل شيء في الحياة خطأ جسيم، الإنسان أعقد من أن يتم تفسيره بجين أناني ومعركة بقاء، الإنسان أنبل من أن يتعامل مع ذاته ككائن دوني، علينا أن نعيد البحث والتساؤل عن الأسئلة الكبرى الخاصة بالفلسفة والأخلاق والاجتماع والاقتصاد إذا ما أردنا خلق عالم أفضل، هذا العالم الذي نحيا فيه والذي يعج بمظاهر الداروينية الاجتماعية والأخلاقية، هذا العالم الذي أصبح لا يعترف إلا بحق القوة يحتاج منا إلى إعادة التأمل وإعادة نبرة التساؤل إلى عقولنا، أعتقد أن هذا هو السبيل الوحيد لرؤية هذا العالم أكثر رحمة وأكثر عدالة في يوم من الأيام
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.