مقالات

النظريات الفلسفية في ماهية اللون

الجزء الثالث: النزعة الاستعدادية (Dispositionalism)

الاستعدادية هي الرؤية الفلسفية القائلة بأن الألوان بمثابة استعدادات (Dispositions)، أي قوى (Powers) أو ميول (Tendencies)، لتسبيب خبرات بصرية معينة في المدركين العاديين (أي الطبيعيين) وفقًا لشروط رؤية معيارية.

وشأن النزعات الفلسفية الأخرى كافة، تختلف صور النزعة الاستعدادية باختلاف التعريفات التي يقدمها القائلون بها لتصور الاستعداد، فقد يكون الاستعداد –أولًا– خاصية موضوعية للأجسام الفيزيائية، بها يتمتع الجسم المرئي بالقدرة على تعديل الأطياف الضوئية –بالانعكاس والامتصاص والنفاذية– بحيث يبدو بلون خاص معين، وهو ما نجده مثلًا لدى الفيلسوف الأسترالي المعاصر ديفيد أرمسترونج (D. M. Armstrong).

وقد يكون الاستعداد –ثانيًا– قوة داخلية ملازمة للذات الواعية: قوة بها تظهر الأشياء ملونة وفقًا لشروط معيارية تتعلق بالسياق الزماني – المكاني، وهو ما يذهب إليه الفيلسوفان الإنجليزيان مايكل دومت (Michael Dummett) وجون ماكدويل (John McDowell)، بالإضافة إلى الفيلسوف الأسترالي – الإنجليزي جاريث إيفانس (Gareth Evans).

وقد يكون الاستعداد –ثالثًا– محض استجابة إدراكية سيكولوجية، أعني محض سلوك تمييزي للمدركين بصفة عامة، وهو سلوك يمكن رده إلى عمليات داخلية للجهاز العصبي بهدف التمييز –عن طريق اللون– بين الأشياء المادية، وتلك رؤية يدافع عنها الفيلسوف الأسترالي – الإنجليزي جون جاميسون سمارت (J. J. C. Smart).

وقد يكون الاستعداد –أخيرًا– قوة متحدة بالموضوع المرئي من جهة، وبالذات المدركة من جهة أخرى، بمعنى أن استعدادي لرؤية الأحمر مثلًا يقابله استعداد لدى الموضوعات الحمراء للظهور بذلك اللون، وترجع هذه الرؤية إلى الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (John Locke)، وهي أكثر أشكال النزعة الاستعدادية شيوعًا، ومنها انطلقت الأشكال الأخرى كافة، ولذا نزيدها تفصيلًا في السطور التالية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كونه ممثلًا قويًا للمذهب الحسي الإنجليزي، نظر جون لوك إلى الخبرة أو التجربة بوصفها المصدر الوحيد لمعرفتنا، فيها تقوم ومنها تشتق أفكارنا عن العالم كافة. وللخبرة عنده مصدران: الإحساس الذي يعطينا أفكارًا بسيطة عن الصفات الحسية مثل أصفر أو أبيض أو حار أو بارد أو ليّن أو صلب أو مر أو حلو، والاستبطان (Introspection) وهو إدراك العمليات العقلية فينا، ويعطينا أفكارًا بسيطة مثل أفكاري عن الإدراك والتفكير والشك والاعتقاد والبرهنة والمعرفة والإرادة وكل أفعال العقل.

في إجابته عن السؤال الخاص بمدى التطابق بين أفكارنا عن العالم الخارجي وبين أشياء هذا العالم ذاته، يعمد لوك إلى تقسيم صفات الأشياء إلى صفات –أو كيفيات– أولية وأخرى ثانوية (Primary and Secondary Qualities). والصفات الأولية ترتبط قطعًا بالأجسام، فلا يمكن أن نتصور الأجسام دونها، مثل الامتداد والشكل والعدد والحركة والصلابة. وكل أفكارنا عن هذه الصفات مطابقة تمامًا لحقيقتها الماثلة في الواقع المحسوس. أما الصفات الثانوية، ومثالها اللون والرائحة والحرارة والطعم، فليست جزءًا من حقيقة الأشياء التي تبعثها فينا، بل هي محض إحساسات ناجمة عن قوى أو تأثيرات في الأجسام، ولدينا استعداد لتلقيها، لكنها غير مطابقة لإحساساتنا. إن إحساسنا بالصوت الحاد أو الغليظ مثلًا لا يقابله في مصدر الصوت إلا محض حركة الجسم بسرعة أو ببطء، فالجسم فيه حركة وليس فيه صوت، بل إن الصوت متوقف على الأذن، وكذلك الحال بالنسبة إلى اللون المعين والطعم المعين، فما هي إلا إحساسات تخضع في كيفياتها لتركيب أعضائنا الحسية، وليست صورة مطابقة للحقيقة الخارجية.

الألوان إذًا –وفقًا لهذه الرؤية– محض خواص ثانوية، أو فلنقل “استعداد” لدى الموضوعات المادية لكي تؤثر علينا بطرق معينة بواسطة كيفياتها الأولية، واستعداد لدينا لتلقي هذا التأثير والتفاعل معه عبر أعضائنا الحسية. والجدير بالذكر أن هذه التفرقة بين الصفات الأولية والصفات الثانوية لم تكن من ابتكار لوك، بل نجد لها جذورًا في الفكر اليوناني القديم، وبصفة خاصة لدى ديموقريطس (Democritus) فيلسوف الذرة الأول، الذي ميز بين الامتداد والشكل والحجم والصلابة، إلخ، أنها خصائص أولية للأشياء، وبين الحرارة واللون والرائحة والطعم، إلخ، أنها خصائص ثانوية، فليست هذه الأخيرة حقائق موضوعية للأشياء، إذ لو كانت كذلك لما اختلفت باختلاف الناس، لكنها ترجع إلى شكل الذرات وترتيبها وعددها. ولعل العبارة الأكثر تفسيرًا لهذا السياق التمييزي هي تلك التي نجدها في قوله المأثور: “الحلاوة تكون بالاتفاق، والمرارة تكون بالاتفاق، والسخونة تكون بالاتفاق، والبرودة تكون بالاتفاق، واللون يكون بالاتفاق، أما الذرات والخلاء فهما الحقيقيان”. وبهذه العبارة يكون ديموقريطس أول من دعا إلى الاستعدادية تفسيرًا لإحساساتنا، وإن اكتست دعوته بالمادية الصارخة.

كذلك نجد لدى الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (R. Descartes) –بمذهبه المثالي أو التصوري– إرهاصًا للنزعة الاستعدادية التي عبر عنها لوك وتابعوه بوضوح من منطلق حسي تجريبي، ففي محاولته للتمييز بين الصادق والكاذب من الأفكار، تمهيدًا للخروج من التصور إلى الوجود، يرتب ديكارت أفكارنا في طوائف ثلاث: الأولى أفكار حادثة أو اتفاقية، وهي تقوم في الفكر بمناسبة حركات واردة على الحواس من الخارج، مثل اللون والصوت والطعم والرائحة والحرارة، وهي غامضة مختلطة، والثانية أفكار مصطنعة، وهي التي نركبها من أفكار الطائفة الأولى، مثل صورة فرس ذي جناحين، أو صورة حيوان نصفه إنسان ونصفه فرس، وما شاكل ذلك، والثالثة أفكار غريزية أو فطرية، ليست مستفادة من الأشياء ولا مركبة بالإرادة، لكن النفس تستنبطها من ذاتها، وهي واضحة وجلية وبسيطة، مثل أفكاري عن الله والنفس والامتداد والحركة والعدد والزمان وغيرها. وعلى هذا النحو تصبح إحساساتنا عند ديكارت –بما في ذلك الإحساس باللون– محض انفعالات ذاتية، أفكار غامضة نتخذها أساسًا لمعرفة ماهيات الأجسام، أعني امتدادها، وليس في الأجسام شيء يشابهها، وليس لها من غاية سوى إرشادي إلى النافع والضار فأكيف مواقفي في الحياة تبعًا لذلك. أي أن ديكارت يميز أيضًا بين كيفيات أولية تتجلى في الامتداد، وأخرى ثانوية مردودة إلى الذات، وهو يستبقي الأولى في الوجود المادي ويستبعد منه الثانية، مع كونها جميعًا عنده إحساسات وانفعالات.

على أن النزعة الاستعدادية تعاني –كغيرها– من نقاط ضعف تحول دون قبولها عن اقتناع تام، ونقطة الضعف الأولى عدم اتفاق الفلاسفة على تعريف واضح ومحدد لتصور “الاستعداد”، فالبعض يجعله قوة كامنة في الأشياء فقط، مستبعدًا الدور الأساسي للذات الواعية في تحصيل المعرفة عن العالم والتفاعل معه، وهو دورٌ يمتنع من دونه البحث في الألوان عمومًا. والبعض الثاني يحيل الاستعداد إلى عمليات عقلية ذات ارتباطات فسيولوجية بداخلنا، تاركًا الباب مفتوحًا للاكتشاف التجريبي –الذي لم نصل إليه بعد– بأن إدراكاتنا الحسية ما هي إلا حوادث تجري في المخ. والبعض الثالث يُلقي بتبعة الاستعداد على كل من الذات والموضوع، واضعًا في الاعتبار سياق الرؤية –أو الإدراك الحسي بصفة عامة– وقياسية الرائي أو المدرك، الأمر الذي يضعنا أمام نقطة الضعف الثانية، ألا وهي صعوبة الاتفاق أو التعيين المبدئي لتلك الشروط المعيارية. أما نقطة الضعف الثالثة –وهي الأكثر خطورة وأهمية– فهي قصر الاستعداد على كيفيات بعينها (ندعوها ثانوية) دون كيفيات أخرى (ندعوها أولية)، رغم كونها جميعًا كيفيات مدركة! فمن المقبول ظاهريًا –على سبيل المثال– القول بأن الموضوعات الخضراء –بمعزل عن الشروط والاحتياطات– لديها استعداد للظهور كأنها خضراء. لكن إذا قبلنا هذا الزعم، فعلينا أن نقبل أيضًا الزعم المكافئ، والقائل بأن الموضوعات المربعة –بمعزل عن الشروط والاحتياطات– لديها استعداد للظهور كأنها مربعة، ومن ثم نصل إلى النتيجة غير المرغوبة، القائلة بأن التربيع (Squareness) استعداد لظهور الشكل المربع!

بعبارة أخرى، نستطيع القول أن الاستعدادي يفشل في مواجهة ما يمكن أن نسميه “تحدي باركلي” (Berkeley’s challenge نسبة إلى الفيلسوف الإنجليزي جورج باركلي)، أعني في الإجابة عن السؤال المنطقي البسيط: لماذا يجب أن نذكر المدركين في قصتنا عن طبيعة اللون، وليس في قصتنا عن الشكل أو الامتداد؟!

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الإدراك وتكوين الإنسان

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية