النبي ، الإنسان الكامل والرئيس الأول
وصف كمال النبي من صحبه، وهام به من تبعه، وتغنى بجماله الشعراء، ومدح بهاءه المادحون، وصدح بمكارمه الخطباء، وكتب في عظمته الأدباء، فما قول العقل في ذلك كله؟
نبي كامل الأوصافِ تمت محاسنه فقيل له الحبيبُ
يُفَرِّجُ ذِكْرُهُ الكُرُباتِ عنا إذا نَزَلَتْ بساحَتِنا الكُروبُ[i]
الكمال الإنساني:
الإنسان هو كائن حي ذو جسد ينمو ويحس ويتحرك بالإرادة، كما يتميز عن غيره من الكائنات بالجانب المعنوي والعقلي والروحي فيه، هو الذي يجعل له الكرامة والفضيلة، ويمكنه من إدراك نفسه وربه والعالم من حوله.
وللإنسان أنواع مختلفة من الكمالات والخيرات التي يمكن أن يطلبها، فيمكن أن يطلب كمال الصحة الجسدية وقوة العضلات، أو الالتذاذ بالأطعمة الشهية والملابس الحسنة، أو المال والجاه والسلطان ومثل ذلك.
وكمالات الإنسان وخيراته الحقيقية هي تلك المرتبطة بعقله وروحه، فهما ما يميزانه، وهما الباقيان بعد فناء جسده وماله، وهما القادران على معرفة الحق واتباعه، وهما المستطيعان لطلب مقام القرب من الحق الأول وعالم القدس الأسمى.
وكمالات الإنسان العقلية والروحية منحصرة في صنفين لا ثالث لهما، معرفة الحق وعمل الخير، ويحتاج معرفة الحق للتعلم، وعمل الخير لتربية وتهذيب النفس.
ولكي يتعلم الإنسان الحق ويتربى على الخير يحتاج لغيره، فبعض العلم يمكن أن يتعلمه وحده لكن الغير يساعده ويسهل له الأمر ويقرب له البعيد، فما قد يحتاج سنوات لإدراكه وحده يساعده غيره على إدراكه في ساعات قليلات. وهناك من العلم ما لا يستطيع أن يصل له بعقله وحده أصلا، مثل علمه بأحوال الأجسام البعيدة عنه مكانيا او زمانيا أو غير ذلك، فلا يستطيع أن يعرفها إلا بالاطلاع عليها بالحس المباشر، أو أن ينقلها لهه أحدهم بالخبر.
ولكي يتربى على الخير ويهذب نفسه يحتاج إلى غيره أيضًا، فبعض الصفات النفسية الحسنة المكتسبة بالتربية والتهذيب يمكنه أن يكتسبها وحده، لكن أيضًا معرفته لها واكتسابها قد يستغرق وقتا طويلًا بلا مرشد أو مربٍ صالح، وبعضها الآخر لا يستطيع اكتسابها دون هذا المربي الحكيم العليم.
فكل إنسان يحتاج إلى من هو أكمل منه علما وتربية كي يأخذ بيده، وهذا الأكمل بدوره يحتاج إلى من هو أكمل منه، إلى أن نصل إلى ضرورة وجود إنسان هو أكملهم جميعًا، يعلم ويربي من تحته، ويرشدهم ويوجههم.
ولما ثبت أن للكون إله واحد كامل مطلقًا، خلق الكون على أكمل صورة، معتنٍ بالإنسان وهادٍ له، حكيم في خلقه وعادل، ثبت ضرورة وجود هذا الإنسان الكامل لتعليم وتربية البشر، تعليمهم العقائد والتشريعات الضرورية لنجاتهم وتكاملهم وخيرهم، وتربيتهم عليها، هذا الإنسان الكامل هو المسمى في لسان الشرع بالنبي. [ii]
الرئيس الأول:
هذا على المستوى الفردي، أما على المستوى الاجتماعي فالأمر أصعب، فكل إنسان يحتاج للاجتماع مع غيره كي يصل لكمالاته وخيراته سواء الجسدية والمادية أو المعنوية والروحية، فكي تأكل خبزا يحتاج هذا إلى مجهود كثيرٍ من البشر، ممن زرعوا القمح، ومن مهدوا الأرض، ومن حصدوا المحصول، ومن استخرجوا الحبوب من سنابلها، ومن خزنوها، ومن طحنوها، ومن صنعوا الآلات المستخدمة في ذلك كله، وهلم جرًا.
وهذا الاجتماع الإنساني يؤدي للتزاحم، أي أن يريد أكثر من إنسان نفس الشيء فتتزاحم إراداتهم، فإن لم يتم تنظيم هذا الاجتماع فسيؤدي التزاحم إلى فشل الكثيرين في الحصول على ما يريدون وما يحتاجون من خيرات وكمالات، أي يفقد المجتمع سبب وجوده وهو تكامل الأفراد، فلا بد للمجتمع من نظام.
والنظام يحتاج إلى قوانين، فلا نظام بدون قانون، فإن وضعنا نظامًا لاستعارة الكتب في مكتبة فهذا يكون عن طريق مجموعة من القوانين التي تحدد مدة الاستعارة وشروطها وكيفيتها، وهكذا. فالنظام يحتاج لقوانين.
والقوانين تحتاج بالتبعية لمشرع يضعها، ومنفذ ينفذها، فإن كان المشرع عالما بكل جزئيات وتفاصيل ما يقوم بالتشريع له فسيكون القانون حافظًا للحقوق، وإن كان المنفذ عالما بالقوانين وعادلًا في تنفيذها فستصل الحقوق لأصحابها، وسيتمكن كل من في المجتمع من الوصول لكمالاته وخيراته، فالقوانين كي تحقق العدل تحتاج لمشرع عالم ومنفذ عالم وعادل.
وبدون المشرع العالم والمنفذ العالم والعادل سيقع الظلم، ولن يتمكن الأفراد من الحصول على حقوقهم واحتياجاتهم، أي سيفشل المجتمع في أداء الغاية من وجوده كما سبق.
وقد ثبت وجود الإله الواحد الكامل المعتني الحكيم العالم العادل، فلا بد إذن من وجود الإنسان المشرع العالم والمنفذ العالم العادل، وهو رئيس هذا المجتمع، وهو الرئيس الأول الذي ليس فوقه رئيس كما ظهر لنا من قبل، وهو أيضًا النبي .[iii]
عالمية وخاتمية النبي :
قلنا إن النبي يأتي لتعليم الناس العقائد والشرائع الضرورية لكمالهم، وكي يربيهم على الخير ويطبق العدل في المجتمع، والعقيدة التي يأتي بها كل الأنبياء واحدة، وهي وحدانية الإله الكامل مطلقًا، وعنايته بالبشر، وحكمته وعدله في تدبيره.
لكن قد تختلف طريقة الدعوة للعقيدة من رسالة لأخرى حسب القوم المرسل لهم الرسالة، وقد تختلف التفاصيل والجزئيات العقائدية فيذكر نبي ما أسماء بعض الأنبياء ولا يذكرهم نبي آخر، أو يذكر أحدهم بعض أحوال المعاد ولا يذكرها آخر، حسب المناسب لتكامل القوم المرسل إليهم النبي .
أما الشرائع والقوانين فهناك شرائع مخصوصة لكل ظرف، فقد يأتي النبي بشرائع معينة مناسبة لظرف معين، وبتغيره يحتاج البشر لشرائع أخرى، ولذلك قد يبعث النبي بشرائع جديدة لتغير الظروف وهو المسمى بالرسول، أو يبعث بنفس شريعة من سبقه.
وقد يبعث النبي أو الرسول لقوم دون آخرين، فتأتي رسالته في طرق الدعوة لله مناسبة لهؤلاء دون غيرهم، وتأتي الشرائع مناسبة لظروفهم دون غيرهم. وقد يبعث النبي للعالم أجمع فتكون تشريعاته ورسالته ودعوته عالمية تصلح لكل قوم ولكل ظرف في العالم وقت إرساله.
وقد يبعث النبي أو الرسول برسائل لزمان معين، أو تطمس رسالته بعده فيلحقه رسل وأنبياء للأزمنة التالية، وقد يبعث برسالة صالحة حتى آخر الزمان، ومحفوظة لنهاية الدنيا، فيكون خاتم الأنبياء.
فخاتم الأنبياء دعوته للعالم أجمع، صالحة لكل مكان، وفيها من طرق الدعوة ما يناسب الجميع، ومن الشرائع ما يلائم كل ظرف، وما يناسب كل قوم وكل زمان حتى آخر العالم، ورسالته محفوظة بعناية الله، المتحققة في الأرض عبر سلاسل من الأسباب المعنوية والمادية.
فالرسالة الخاتمة هي الأكمل من حيث طرق دعوتها للناس، ومن حيث تشريعاتها الصالحة لكل مكان وزمان وإنسان، ويجب أن يكون النبي المكلف بها لديه من صفات الكمال ما يؤهله لحمل هذه الرسالة وأدائها.
كمال النبي:
ولما كان النبي هو الذي يساعد جميع البشر على تعلم الحق والتربية على الخير، وكانت العناية الإلهية بالبشر كاملة غير ناقصة، كان النبي على أكمل درجة بشرية ممكنة من العلم بالحق والتحلي بالخلق الحسن.
ولما كان رئيسا للمجتمع الفاضل، كان أقدر الناس على الإدارة والقيادة والرئاسة، وأعلمهم بتفاصيل الزمان والمكان والأجسام والظروف المطلوبة لكي يضع التشريعات، وهو أعلمهم بالتشريعات بالطبع، وأقدرهم على تطبيقها، وأعدلهم في تنفيذها.
ولأن الله كامل مطلقًا وعنايته سبحانه كاملة، فعلم النبي وخلقه وعدله يستحيل فيهم الخطأ والزلل والنقص، فهو معصوم بهداية الله وتسديده، وعن طريق الأسباب التي وضعها الله فيه مثل كمال العقل والعلم والإرادة والعفة والشجاعة والضمير والعدالة.
ولأن العلم العقلي التام يحتاج أيضًا لسلامة الحواس والخيال فهو كامل الحس والخيال. ولأنه مسؤول عن دعوة الناس وهدايتهم فهو أفضلهم حجة واحتجاجا وبيانا وإقناعا وتأثيرا.
ولأن هداية الناس منوطة بقبولهم له فلا يوجد فيه ما يشينه قط أو يمنع قبولهم له وهدايته لهم إلا رفض الرافضين منهم، فهو أكملهم حسبا ونسبا وجسما بلا عيب أو شائبة.
ولأنه منوط به إقامة العدل على الجميع، ومن هؤلاء من هو شديد القوة الجسدية شديد المعاندة، لا تصلحه إلا القوة، ولا يدفع أذاه عن غيره إلا هي؛ وجب للنبي كمال الجسد والقوة الجسدية.
فإذا نظرنا في حال النبي الخاتم فله مع ذلك كمالا يليق بخاتمية رسالته وشمولها كما سبق، فهو الإنسان الكامل، والرئيس الأول للكاملين، سبحان من خلقه وسواه!
[i] قصيدة “بمدح المصطفى تحيا القلوب” للبوصيري، موقع أدب، الموسوعة العالمية للشعر العربي: http://www.adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=13725&r=&rc=1.
[ii] انظر براهين النبوة في كتاب “السياسة المدنية” لأبي نصر الفارابي، المكتبة العصرية، صيدا – بيروت، الطبعة الأولى، 2012. وانظر أيضًا “آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها” لأبي نصر الفارابي، المكتبة العصرية، صيدا – بيروت، الطبعة الأولى، 2011.
[iii] انظر “الإشارات والتنبيهات” لأبي العلي بن سينا، مع شرح نصير الدين الطوسي، تحقيق الدكتور سليمان دنيا، القسم الرابع، دار المعارف، الطبعة الثالثة.
اقرأ أيضا :
أزمة العدالة والخير و الشر.. ألن نتمتع بعالم خالٍ من الشرور ؟
الميراث للمرأة بين حكم العقل وحكم الفيسبوك – هل نتبع الحكم الشرعي أم لا ؟