مقالات

المُعلم في الفكر الصيني

حظيت الثقافة الصينية بتاريخ حافل من الفلاسفة والمفكّرين، مما أثّر بالإيجاب على نشر الوعي وصناعة طبقة من المثقفين الدارسين للكتب والآداب القديمة والطقوس والعادات والتقاليد الأصيلة الفاضلة.

إنّ كلمة الأستاذ لها من الجلال والوقار والبهاء ما يُشعركَ بالقداسَة والاحترام وخفض الطرف والتزام الأدب والانصياع للأمر والتمسّك بالآداب والبحث عن المعرفة ومد البصر في الأفق لاستشراف المستقبل.

وقد بلغ احترام المعلم مبلغًا عظيمًا حيث يُعد احترامه من الأمور المهمة في التعليم، فإذا احترم المجتمع المعلم فإن كل شيء يكون على ما يرام، لأنه يُعلّم المبادىء والقيم والأخلاق والعلوم النافعة، بل ربطَ الفيلسوف (شون تسي) ذلك بالازدهار فقال: “إنّ الدولة تنعم بالازدهار عندما تحترم المعلم وتبجله، والدولة التي تحتقر المعلم وتحط من مكانته تنهار ويأفل نجمها”.

حكيم الصين كونفوشيوس وحديثه عن المعلم

إنّ كتاب (حوارات كونفوشيوس) الذي قمتُ بشرحه في كتابي (شرْح المختار من كتاب الحوار)، في ترجمته التي قام بها محمد مكين -رحمه الله- وهو من أهم الكتب التراثية في الصين، ذكرَ في حوارات الكتاب كُلّه كلمة الأستاذ والتلميذ، وفي هذا دلالة على الأدب وإشفاق الأستاذ على تلاميذه والاحترام العميق من التلاميذ لأستاذهم، ويشهد على ذلك الحكمة الصينية القائلة بأنّ الأستاذ مثل الأب أي يتعلّم تلميذه ويأخذ بمشورته مدى الحياة، ورأيتُ هذا بعيني بل ألمسه من خلال تعاملات الطلاب معي.

ومن عاداتهم عندما يقومون بتأسيس وافتتاح مدرسة فإنهم يُظهرون الاحترام والاهتمام، ويمارسون طقوسًا ومراسم كتقديم الطعام والخضروات الطازجة أملًا في نشر الخير وتفاؤلًا بالمستقبل المشرق بالعِلم وإعداد الفرد جسميًا وعقليًا ونفسيًا ومهنيًا لمواجهة الحياة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

والمعلم يتحلّى بصفات جميلة لائقة وجليلة، وكما أكّد حكيم الصين كونفوشيوس أنّ المعلم ينبغي أن يتطلّع إلى الناموس، ويستند إلى الأخلاق ويجنح إلى الرحمة ويبرع في كل فن، وهدف الحكيم من ذلك أن يعمل المعلم سعيًا وراء الناموس باعتباره المثل الأعلى مدى حياته حتى يرفع منزلته العقلية المكوّنة من (رن) أي الرحمة،

ويشير إلى الفن هنا بالفنون الستة المهمة وهي: الطقوس والموسيقى والرماية والسياقة والقراءة والحساب، ودراسة (لي) وهي الطقوس أي سلوك الإنسان وتصرفاته.

إنّ التعليم في بداياته كان أرستقراطيًا لفئة الأباطرة والنبلاء والسادة والقادة إلى أن جاء كونفوشيوس المولود في (551 ق. م)، ونادى بالمساواة بين الفقير والغني والضعيف والقوي، وفتح المدارس أمام طبقات الشعب العريضة لنشر التعليم والثقافة في ربوع المجتمع وجاء مِن بعده مَن أكملَ هذا الدور.

من سمات المعلم

وها هنا ملمح آخر للمعلم وهو ذِكر تلاميذه والفخر بهم، كلٌ فيما يبرع ويبزغ في إتقان مهارته، فلا يضير المعلم أن يذكر الجاد الحاسِم في حياته، والبارع في الرياضيات، والحاذق الفصيح في اللغة، والحافظ للأحداث التاريخية، والمُتقن للظواهر الجغرافية، والماهر في العلوم، والشجاع المِقدام في الرياضة، والحافظ للمتون والأشعار، إنّ نُطق المعلم لاسم تلميذه يُشعره بالفخر والحب والإقبال على التعليم والمدارسة.

وكان الأستاذ يسأل عن تلاميذه ويتفقّدهم، فيقف معهم في أفراحهم وسعادتهم ويواسيهم في أتراحهم وأحزانهم ويعود مريضهم ويشد من أزره للنهوض والتماثل للشفاء.

وفي الثقافة الصينية تأكيد على أن يتحلّى المعلم بالوقار والهيبة والتمكّن من مادته التي يقوم بتدريسها ومتانتها، وأن يكون صادقًا وأمينًا في إيصال العِلم وعدم إخفاء ما يعرفه ويُخلص في بثّه في طلابه، وأن يشرح الموضوع كاملًا من أوله إلى آخره، وألا يخاف من تصحيح الخطأ الذي وقع فيه لتحقيق صِفة التواضع، وما أشبه الليلة بالبارحة إذ تنادي نظريات التعليم الحديث بمثل هذه التوجيهات والتعليمات.

ومن سمات المعلم الحميدة حث تلاميذه على استذكار الدروس أولًا بأول حتى تثبت في الذهن وتتفاعل في الوجدان، والتدرج في تدريس منهجه وأخذ طلابه باللين ومعاملتهم بالحسنى، واستخدام طرق التدريس الناجحة والناجعة لكل مرحلة وما تحويه من خصائص عمرية وعقلية، يُعوّدهم المشورة في الرأي ويُدربهم على حُسن القيادة في الصف.

لقد ربط الصينيون بين الزراعة والتعليم للتشابه الكبير بينهم في الحصاد وجني الثمار ومن ثم بناء العقول والحضارة، وأكّدوا على قَرْض الشعر ومطالعة الكتب وتعليم الآداب والاحترام والتحلّي بالصفات النبيلة والشيم المُرضية، فالمعلم مُربٍّ وصانع الأجيال، والأجيال هي الأمة بأسرها وهو وسام على الصدور وتاج على الرؤوس.

اقرأ أيضاً:

دور المعلم والأخطاء التي تواجه المجتمع

كونفوشيوس الحكيم التربوي

المعلمون والتنمية المهنية في بلادنا العربية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

د. وائل زكي الصعيدي

خبير مناهج وطرق تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها/ جامعة الاقتصاد والتجارة الدولية

محاضر في: جامعة الدراسات الأجنبية كلية العلوم الإسلامية الصينية / بكين – الصين

دكتوراه فى المناهج وطرق تدريس اللغة العربية

ماجستير في أدب الأطفال، ودبلوم خاص في المناهج وطرق التدريس، رئيس قسم الموهوبين بإدارة ميت أبو غالب التعليمية دمياط سابقاً

عضو اتحاد كتاب مصر