فن وأدب - مقالاتمقالات

نجيب محفوظ

أربعة وجوه .. الوجه الثالث

كيف يبدع الموظف؟ هذا واحد من الأسئلة المهمة في حياتنا الأدبية، لأن كثيرًا من الأدباء لا يمكنهم الاستمرار على قيد الحياة والكتابة سوى بوظيفة يتقوتون منها.

ذلك في بلاد لم تجد للروائيين والشعراء وكتاب القصة والمسرح خانة في سجل الوظائف المعتمدة يتم تسكينهم فيها، فكُتبت في هوياتهم أمام الوظيفة: مهن وحرف شتى، بعضها له علاقة بالكتابة عمومًا، مثل الصحافة، وبعضه لا علاقة له البتة بالإبداع الأدبي.

الأدباء بين حرية الأدب وعبودية الوظيفة

الوظيفة قيد، والأدب في حاجة إلى حرية، الوظيفة التزام، والكتابة الحقيقية بنت التمرد، الوظيفة طاعة، والكتابة مساءلة ومشاكسة ومعاندة.

ربما لا شيء يجمع الاثنين سوى المكتب الذي يمكن أن يكون المكان الذي يجلس خلفه الموظف، وكذلك الكاتب، لكن بين المهمتين بونًا شاسعًا.

الأول تكون جلسته كي يدون في دفاتره وسجلاته بطريقة رتيبة مجترة اعتيادية، يتحول فيها أحيانًا إلى أشبه بآلة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أما الثاني فيجلس ليخط على الورق ما تنفعل به نفسه، ويجود به ذهنه، وتهديه له قريحته المتوقدة، غير خاضع لتكرار نمطي أو رتابة تبعث على الملل، نظرًا لتوالي الشخصيات والصور والمواقف وتعدد مستويات لغة الكتابة، وشكل المنتج الأدبي الذي ينجزه.

يكون على الأدباء أن ينفصلوا عن وظائفهم، بلوائحها والتزاماتها وطرائق عيشها، حين يشرعون في كتابة الأدب، ليتحرك الواحد منهم بين عالمين متناقضين، ويكون عليه –بمرور الوقت– أن يتدرب على هذا، ويمتلك مهارة عالية.

حضرة الموظف نجيب محفوظ

طالما أن الكتابة لا تدر عليه دخلًا يكفيه ومن يعولهم، بذا لا يستطيع فكاكًا منها، وفي الوقت نفسه فإن الطاقة الأدبية المخزونة والمركوزة في نفسه، تلح عليه بلا توقف، باحثة عن سبيل للوجود والتحقق.

كان نجيب محفوظ واحدًا من هؤلاء، أو على رأسهم، لا سيما أنه كان موظفًا صارم الانضباط، لكنه اختلف عن غيره في أمرين: الأول أنه لم يدع الوظيفة بمتطلباتها الذهنية والنفسية والجسدية تعيقه عن الكتابة طويلًا، بل إنه نقل الشكل الوظيفي في الكتابة الأدبية.

تصرف مع الأدب وكأنه وظيفة ثانية، يجب أن يكون منضبطًا فيها، ومخلصًا لها، ومطيعًا لمقتضياتها، ولذا كان يكتب يوميًا خلال كل الشهور التي لا يضطر للتوقف فيها إثر إصابته برمد ربيعي ومرض السكري.

الثاني أنه حوَّل مشاهداته ومكابداته وانفعالاته وخبراته وعلاقاته في عالم الوظيفة إلى مادة طيعة لأدبه، شخصيات وسياقات وأحوال وتأملات ومواقف وأحداث.

استمر محفوظ في الوظيفة، على مضض، لأنه لم يملك ترف الابتعاد عنها، والتفرغ للأدب، نظرًا لأنها توفر له الجزء الأكبر من احتياجاته المادية.

الوظيفة والموظفون في عالم نجيب محفوظ

الموظف نجيب محفوظفي حوار أجراه معه فؤاد دوارة عام 1962 ونشره في كتابه “عشرة أدباء يتحدثون” يقول له محفوظ: “أصارحك أنني أعاني دائمًا قلقًا من ناحيتين: المال والصحة”، وفي المال يقول: “لم أصل حتى الآن إلى مرتب يكفل لي ضروريات الحياة، وكل شهر أسدد بقية التزاماتي من الخارج.

من أجر نشر الكتب والقصص ومكافآت الإذاعة ونحوها، والحالة مستورة والحمد لله، لكني لا أستطيع أن أتخلص من ذلك الإحساس بالقلق، إذ ماذا يحدث لو لم تأت هذه التكميلات غير المنظورة، غير المضمونة؟”.

لا تخطئ عين وعقل من قرأ أعمال نجيب محفوظ جميعًا أو بعضها، وكذلك من تابع الكتابات النقدية عن أدبه، أن عالم الموظفين، بلوائحه وترتيباته وتراتبيته وعلاقاته واحتكاكاته ومماحكاته اليومية وما يضفيه على الموظفين من سمات،

يشكل الضلع الثالث في مضمون سرد أديبنا الكبير إلى جانب مجتمع الحارة، وعوالم التصوف وتجلياته، ولعل رواية “حضرة المحترم” تُقدم أنها نموذجًا كاملًا لحياة الوظيفة في أدب محفوظ.

نجيب محفوظ بختم النسر

كنا نعرف بعض ما يقال ويكتب عن محفوظ الموظف في التزامه وانضباطه واعتماده على راتبه من وزارة الأوقاف مصدرًا أساسيًا لدخله، حتى لو أتاحت له الظروف أن ينتقل إلى العمل منتدبًا في أماكن أخرى أو يبيع بعض قصصه ورواياته للسينما.

لكن أحدًا لم يفكر في البحث عن الملف الوظيفي لمحفوظ، لنعرف حقيقة هذا، وبعضه كان قد ورد على لسان أديبنا العربي الكبير في حواراته وكتاباته وبوحه وشكواه.

جاء الكاتب الصحفي الأستاذ طارق الطاهر، رئيس تحرير جريدة أخبار الأدب، ليمضي على هذا الدرب، حتى وصل إلى الملف المقصود، وقلَّب في تؤدة وتمهل أوراقه التي تربو على ثلاثمائة.

خرج لنا بكتاب كامل عنوانه “نجيب محفوظ بختم النسر”، لتصبح أول سيرة وظيفية كاملة له، يكشف فيها عن جوانب أخرى ظلت مخفية من حياة محفوظ بين المكاتب في ثلاثة أماكن، جامعة القاهرة، ووزارة الأوقاف، ووزارة الإرشاد القومي.

التي تنقل فيها ما بين مصلحة الفنون ومؤسسة السينما، إذ شغل فيها مدير الرقابة، ومدير مؤسسة دعم السينما، ورئيس مجلس إدارة المؤسسة العامة للسينما، وهي رحلة استمرت سبعة وثلاثين عامًا، تحديدًا ما بين 1934 و1971.

اقرأ أيضاً:

الوجه الأول من المقال

الوجه الثاني من المقال

وزير الأوقاف ينصح محفوظ بالكتابة عن الحب

إذا كان الحديث عن انضباط محفوظ الصارم قد قُتل بحثًا، فإن تفاصيل هذا الانضباط لم تشرح على النحو السليم، فالرجل كان مطيعًا في واجباته، لكنه لم يكن خانعًا حيال نيل حقوقه، فعندما تخطته ترقية في وزارة الأوقاف هب مدافعًا عما له، وكتب إلى رؤسائه شاكيًا.

كما أن حياته الوظيفية لم تمض دون أزمات، بل عصفت بها مشكلات بين حين وآخر، وأفرد الكاتب فصلًا لهذا، أبان لنا فيه أن أولى هذه الأزمات حين تم استدعاؤه لمقابلة وكيل وزارة الأوقاف أحمد حسين شقيق الدكتور طه حسين،

بعد نشر رواية “فضيحة في القاهرة” مسلسلة بمجلة آخر ساعة، التي نُشرت فيما بعد تحت عنوان “القاهرة الجديدة” و”القاهرة 30″.

حين علم أنه تلميذ عميد الأدب العربي، وأن ما كتبه رواية خيالية، حفظ التحقيق ونصحه قائلًا: “لماذا تكتب عن فضائح الباشوات وتعرض نفسك للمشاكل؟ اكتب عن الحب أفضل وأكثر أمنًا”.

ذكريات نجيب محفوظ مع الوظيفة

الموظف نجيب محفوظعندما نشر “أولاد حارتنا” تم استبعاده من منصبه مديرًا للرقابة بالسينما، وتوالت أزماته الوظيفية بسبب كتاباته الأدبية تارة، وقراراته التي رفضها بعض المخرجين تارة أخرى.

بل وجد نفسه أحيانًا في مواجهة كبار المسؤولين السياسيين حين أصدروا قرارات مست السينما، فاستخدم قدرته الهائلة على التحايل والإقناع في حل المشكلات، وجعل العواصف تمر بسلام.

بدا محفوظ في أول طريقه ساعيًا إلى الوظيفة سعيًا حثيثًا عقب تخرجه في كلية الآداب جامعة القاهرة، لأنها كانت بالنسبة لأبناء جيله تمثل أمانًا، ولم يكن أمامه من سبيل لتحقيق ذلك سوى عبر واسطة مكنته من العمل في البداية موظفًا بجامعة القاهرة، قبل أن ينتقل إلى الأوقاف.

لعل هذا الاحتياج، ساعده كثيرًا في رسم الحالات النفسية وتصرفات أبطال روايته “القاهرة الجديدة”، الذين كان شغلهم الشاغل وهم طلبة في كلية الحقوق الحصول على وظيفة بعد التخرج.

إذا كانت كتابات محفوظ عن عالم الموظفين أو “طبقة الأفنديات”، لا سيما ما جاء في رواية “المرايا”، قد وصفت ملامح جانب مهم مما يصيب سلطة المكاتب من فساد وتحجر وتراتبية صارمة ونفاق ومداهنة، فإن الكتاب يبين كيف حافظ محفوظ –حتى وهو مخلص لوظيفته– على نفسه من أن يسقط في فخ أي من هذه الخصال السيئة.

حكاية الأديب الموظف

أعتقد أن الأمر لا يعود فقط إلى تربيته الخلقية، وسماته النفسية، وخلفيته الثقافية، إنما أيضًا إلى أن الرجل كان ينظر إلى الوظيفة –في الغالب الأعم– على أنها مجرد باب رزق ليس أمامه خيار لغلقه، لأن غيره ليس مأمونًا ولا مضمونًا.

محفوظ عاش طيلة حياته يتمنى أن يجد سعة من المال، تمكنه من الاستقالة والتفرغ لكتابة الأدب، لكن هذا لم يتيسر له حتى أحيل إلى التقاعد وهو في سن الستين، شأنه شأن بقية الموظفين الأٌقحاح.

إن كتاب طارق الطاهر، يغلق جزءًا من الدائرة التي تريد أن تحيط بمحفوظ، أدبه وحياته بما انطوت عليه من أسرار وأحوال، ويسد الكتاب في موضوعه، جانبًا لا يستهان به من هذه الدائرة.

لا سيما أننا أمام كاتب، وإن بلغت شهرته الآفاق، فإن كتمانه الشديد ومداراته ومواراته وتحايله وحرصه على فصل حياته الخاصة عن صيته الأدبي، تجعل دومًا هناك إمكانية لاكتشاف زوايا جديدة في حياته وأدبه.

نكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى.

اقرأ أيضاً:

بين الأدب والأديب

المعطف لجوجول

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*********

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري