مقالاتعلم نفس وأخلاق - مقالات

لقد كان المنزل من ذهب، إذا فمن حقي أن أسرقه يا حضرة القاضي

المنزل الضخم

يحكى أنه في قديم الزمان وفي إحدى البلدان التي تعاني آثار الفقر والضيم، أراد أحد الأثرياء أن يزهو بثرائه الفاحش فبنى منزلًا ضخمًا يكاد يكون قصرًا، وإمعانًا في إظهار ثرائه أمر بأن يُطلى المنزل بماء الذهب ليخطف بريقه الأنظار، حتى استيقظ أهل البلدة يومًا على خبر سرقة بعض الأغراض الثمينة من ذلك المنزل، وسرعان ما سقط اللص في أيدي العدالة ليتم عرضه على قاضي البلدة، الذى ما إن تبارى أمامه محامي المتهم بحججه حتى أمر بإطلاق سراح اللص وحبس صاحب المنزل بتهمة -ويا للعجب- سرقة منزله على يد اللص -أو لكي نكون أكثر دقة- دعوة اللص لسرقة منزله.

فقد أعجبه بيان المحامي الذي يرى أن اللص لم يسرق إلا لما رأى مظاهر البذخ جلية على المنزل، ليلجأ صاحب المنزل لمن يدافع عنه ويدفع القاضي بالتراجع عن ذلك الحكم العجيب، بعد أن أتى صاحب المنزل بالأدلة القاطعة على قيام اللص نفسه وغيره من اللصوص بسرقة العديد من المنازل ذات المظهر المتواضع، ليعلن القاضي عن حكمه في الختام بـ “سجن اللص بتهمة السرقة وبراءة صاحب المنزل من تهمة البذخ والإسراف”!

لذا وقبل الانتهاء من قصة هذا المنزل لا بد لنا من أن نوجه عدة أسئلة لهذا القاضي، لعلنا بهذا نصل إلى حقيقة تلك السرقة وأسبابها، ألم يرَ أحدٌ من أهل تلك البلدة المنزل الذهبي غير السارق؟ فإن رأوه فلِم لم يسرقه غيره؟ هل كلًّا من قضيتي السرقة والبذخ قضية واحدة ذات حكم واحد؟ أي هل براءة اللص من السرقة تثبت تهمة البذخ والعكس صحيح؟ أين الرابط بين هذا وذاك لكي يكون حكم القاضي النهائي على هذه الشاكلة؟

أخطاء القاضي  !

بالتمعن في تلك القضية يتضح لنا العديد من المغالطات الفكرية التي وقع أسيرًا لها ذلك القاضي، الذي تجاهل حقيقة أن السرقة إنما هي فعل قبيح، لا تصدر إلا عن ضعيف النفس التي غلبته شهواتها وأعمت بصيرته عن إنسانيته الحقة الرافضة للظلم، وأن ذلك البذخ وجد أم لم يوجد ليس علة ذاتية ودافعًا حقيقيًا للسرقة، فإن وجد سقطت تهمة السرقة عن السارق، فلم يكتفِ بذلك بل إنه اعتبر ذلك مقدمات كافية لتبرئة صاحب المنزل من الإسراف والبذخ الذي لا جدال من وقوعهما، لما رأى أن البذخ لم يكن دافعًا حقيقيًا.

وكأن كلًّا من القضيتين ذات ارتباط حقيقي بالأخرى يتعدى فقط حب الأموال والشهوات الذي وقع فيه صاحب المنزل واللص، لينتهي به الحال إلى ثنائية حمقاء لا مجال لها في تلك الواقعة بين “هو إيه اللي خلاه يغري اللص بشكل بيته” و”على فكرة بقى اللص مجرم والراجل يدهن بيته باللى هو عاوزه”، دون النظر إلى القيمة الحقيقية التي لا بد أن تكون غاية القاضي وهي العدل والعدالة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

عدالة اللص مع نفسه ومجتمعه بألا يظلم غيره بالسرقة، وعدالة صاحب المنزل مع نفسه ومجتمعه بألا يكون فريسة لحب الشهوات والانفصال عن الواقع الذي يعيشه مجتمعًا متشدقًا بالحرية وفقط، دون النظر إلى أن كماله الإنساني لا يحدث إلا بذلك الاجتماع الفاضل العادل بينه وبين بني جنسه، حيث يسود الحق والعدل بين الناس.

التحرش وسيطرة الشهوات

#أول_حادثة تحرش_كان_عمري هاشتاج انتشر سريعًا حاملًا الكثير من المآسي التي تلاقيها الفتيات والنساء في مجتمعنا، حيث تراوحت أعمارهن أثناء أول حادثة ما بين 4 إلى 10 سنوات، ليظهر لنا أن كارثة طفلة البامبرز لم تكن حادثة فردية كما قد نظن، وإنما هي رائحة العفن وقد فاحت من ذلك المجرور بعد أن تراكمت في أحشائه القبح الذي تمكن من المجتمع، وكما هو الحال دومًا ظهرت سريعًا الخلافات والآراء الثنائية المتصارعة.

ولكن للأسف بدلًا من أن تجعل تلك القضية -وغيرها ممن حملهم الهاشتاج- المشكلة واضحة وضوح الشمس في كبد السماء الصافية التي لا أثر لسحابة فيها، تسابقت كل المغالطات الفكرية والأخطاء غير المنطقية لتملأ تلك السماء بسحب كثيفة قاتمة تحجب الحقيقة إلا عمن تحراها، فعلى الرغم من جلاء الحقيقة بأن المتحرش هو إنسان تجرد من إنسانيته واتبع شهوته وأمات نفسه التواقة للكمال وانحط إلى ما هو أسفل من الحيوان، وأن دافعه الوحيد هو قبح نفسه وتشوه روحه فلا جنس الضحية يعنيه ولا عمرها يردعه ولا هيئتها تدفعه.

بين هذا وذاك

نجد هناك من يخرج علينا من يؤكد أن مظهر الضحية هو الدافع لا محالة، متجاهلًا حقيقة أنه حتى وإن كان مظهر الضحية ملفتًا فإن هناك من تجاهله، وأن تلك العملية البغيضة لا تكون إلا من ضعف سيطرة المرء على نفسه وكأن به في منزلة إلى ما هو أقل من الحيوان أقرب، فلا يحتاج صاحب العقل السوي إلى معرفة مظهر الضحية لإدانة المذنب الحقيقي، بينما على الجانب الآخر نجد من يظن نفسه أكثر حكمة وقد تسربل بعباءة العقل فيقول: “المذنب الحقيقي هو المتحرش ولا شيء سواه وأما الضحية فهي حرة حرية تامة!”.

فيفعل كما فعل القاضي حيث المقدمات لديه تؤدي إلى نتائج في قضية أخرى لا مجال لها الآن، فكما قلنا لا يمكن لصاحب العقل ألا يدين فعل المتحرش إدانة تامة، وقد أدرك أن فعله القبيح إنما هو نتيجة لما لحق بنفسه من قبح، إلا أنه وفي مجال آخر تمامًا حين تعرض عليه قضية الحرية الشخصية فلا يمكن له إطلاقها، وإلا كان إطلاقها يجري علي المتحرش في فعله واللص في سرقته، بل إن قضيته تظل دومًا هي قضية العدالة لا غيرها، تلك التي أدان بها اللص وصاحب المنزل.

العدالة هي المطلب

فينبغي هنا على كل ذي عقل أن ينظر إلى أي من القضيتين بنظرة عقلية كلية، لا تعني سوى بالمبادىء التي تحرك الإنسان والمجتمع، فترى أن الرابط الوحيد بين قضيتي التحرش والحرية الشخصية إنما يكون في العدالة التي لا تكون إلا بالعفة، أما ما دون ذلك فهما قضيتان منفصلتان مدان فيهما من أخطأ دون أن يكون خطؤه مبررًا لخطأ الآخر في قضية أخرى تمامًا، فلا صاحب المنزل بريء من البذخ ولا اللص ينعم بسرقته، وإن كان إدانة السارق بالسرقة يكون تحت مظلة العدل، فإدانة المبذر المسرف يكون أيضًا تحت مظلة العدل.

تلك المظلة الجامعة التي تعطي كل ذي حق حقه، فإن أنت حُرمت من حرية الأذى فإن هذا لا يكون حرمانًا حقيقيًا بل اكتسابًا لفضائل حقة، والعدالة ههنا لا تعني فقط المادة وآثارها، بل إنها تعني بالأصل بالجوانب النفسية والمعنوية والروحية، تلك الجوانب التي تسعى في الختام لرقي المجتمع بتكامل أفراده، وانتصار كل منهم على هوى نفسه وسيطرته على شهواته الخفية منها والظاهرة

ولا يكون ذلك إلا بالعقل المتخلص من أسر حب النفس والشهوات، المتدرع بالحكمة والتفكير المنطقي المجرد من الثنائية والتعميم، وفي الختام ليس هذا تجاهلًا لما تلاقيه المرأة في مجتمعنا، وإنما هي إشارة لا بد منها بأن تلك المعاناة لا بد أن تنجلي إذا ما احتكم المجتمع إلى العقل وتغلب أهله على حب الشهوة، لتسطع شمس الحقيقة مجددًا فيغمر ضوؤها المجتمع بكل جوانبه، فلا يكون هناك لص ولا صاحب منزل ذهبي.

اقرأ أيضا:

حوادث مؤسفة تكشف لنا أحوال المرأة في المجتمع الغربي – الغرب ليس جنة

 المال والإيمان.. أزمة المجتمع المعاصر .. ما هي وكيف نعالجها ؟

 أزمة العدالة والخير و الشر.. ألن نتمتع بعالم خالٍ من الشرور ؟

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

محمد صابر

مهندس حر

باحث في علوم التربية وفلسفة التعليم بمركز “بالعقل نبدأ”

دراسات عليا في كلية التربية جامعة المنصورة

حاصل على دورة إعداد معلم (TOT) من BRITCH FOUNDATION TRAINING LICENSE المعتمد من الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية