مقالات

المعجزة الغزاوية .. الجزء الأول

يمثل مشهد المقاومة الفلسطينية في غزة ضد الكيان الصهيوني الغاصب تجليًا إعجازيًا بكل المقاييس، وعلى كافة المستويات: سياسيًا وفكريًا وعقديًا وتكتيكيًا وعسكريًا واستراتيجيًا، الشأن الذي يملي على البصيرة أن تتملَّى فيه رويدًا رويدًا، رغبةً في الفهم وأملًا في نجاعة التصور ودقة التأويل.

والحق أنَّ المشهد الغزاوي مدهشٌ إلى حدودٍ استثنائيةٍ، بحيث يصعب على الفِطَرِ الإنسانية النقية الفكاك منه، أو الابتعاد عنه هملًا ونسيانًا، وإنَّما وجب على كلِّ نفس حُرَّةٍ في العالم كلِّه أن تستجيب لحادثٍ جللٍ مثل الحادث الغزاويِّ الذي يُشعُّ وضاءةً في مسير التاريخ العربي والإسلامي، بل في مسير الإنسانية الحُرَّةِ كلها مذ خلق الله آدم واستخلفه في الأرض.

إنَّ الوصف الأمين لحالة الإنسان العربي الأصيل الآن أنَّه في أرقٍ وجوديٍّ، استجابةً شفيفةً منه لما يراه ليل نهار من تكالب العالم الصليبيِّ على المقاومة في غزة، وعزمه الآكد على الفتك بها وإفنائها. والذات العربية النقيَّة التي تتلقى هذه الصدمة العدوانية المروِّعة، ثم تقف إزاءها وقوف العاجز المقهور لا تملك شيئًا إلَّا صوت حناجرها، تتململ في إهابها متفصِّدةً غضبًا وألمًا، حتى ليكاد يكون حالها كحال النابغة الذبياني الشهير في ليله الكابوسي الأَرِقِ، الذي قضاه كأنَّ أفعى رقطاء لدغته بسمها الناقع، كما في قوله:

فبتُّ كأنِّي ساورتني ضئيلةٌ               من الرَّقشِ في أنيابِها السُّمُ ناقعُ.

غير أنَّ قراءة المشهد الغزاوي بعمقٍ تستوجب مقاربته من زاويتين: الحالة الإعجازية، والاستجابات المختلفة لها، وهو ما نوجز القول فيه على النحو الآتي:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أولًا: قراءة الحالة الغزاوية

قد يكون بداهةً بوصفنا عربًا، أن نرى في فعل المقاومة الفلسطينية المدهش نصرًا عظيمًا مؤزَّرًا، وهذا حقٌّ ليس لمحض عروبتنا التي نتعصب لها، وإنَّما هو تعصبٌ للحق وللحقيقة الواقعية، كما هو نصرٌ بإقرار العدو الصهيوني والعالم الصليبي من ورائه، ولولا أنَّه نصرٌ مبينٌ للمقاومة ما هرع إلى الصهاينة بنو جلدتهم من الصليبيين الأوروبيين والأمريكيين ينصرونهم بالعتاد وبالمال وبالأنفس المتطوعة والمرتزقة معًا.

لكن الذي يهمنا كثيرًا في شأن انتصار المقاومة هو البحث في العلل، وإدراك الحيثيات التي أفضت إلى هذه النتائج المذهلة، وهو ما نكثِّفه في مقولة: “الحالة”، وقصدنا من الحالة هنا أن المقاومة في غزة بدءًا بالقيادة، مرورًا بالمقاومين، وانتهاءً بالحاضنة المجتمعية التي تُسيِّج المقاومة، قد أفلحت في صناعة “كيفٍ” أو “كيفيةٍ” نفسية وعقلية وفكرية وسياسية وعسكرية واقتصادية، تضع معطيات المقاومة –رغم قلتها وضعفها– موضع التفعيل الأمثل، والاستخدام المتميز لها في ساحة الصراع مع الكيان الغاصب.

والحق أن الفضل الأكبر في ذلك الكيف النوعي النادر يرجع بالأساس إلى قيادة المقاومة، وقدراتها التأثيرية التي خططت سياسيًا وعسكريًا، وأقنعت المقاومين بتكتيكات التنفيذ، ووصلت بهم تدريبيًا إلى أوج المهارة القتالية الاستثنائية في إتقانها وبراعتها. إنَّ أول عناصر التأثير في القيادة تأكد المقودين من ولائها للقضية، وإخلاصها لتراب الوطن، وأنَّها لا تتاجر بالمأساة الفلسطينية كي تتكسب من ورائها منافع شخصية على نحو ما فعلت فصائل فلسطينية معلومة، وإنَّما ثبت باستقراء التاريخ أن قادة المقاومة هم أول من يُستهدف، وأول من يُقتل ويستشهد، أي هم صنفٌ من القادة الاستثنائيين الذين يحبون الموت كما يحب غيرهم الحياة، ويحرصون على الشهادة كما يحرص غيرهم على الغنائم والملذات، وشتان بين الصنفين من القادة.

إنَّ مقولة “القيادة” هنا بالغة الأهمية والخطورة التأثيرية، لأنها تصنع “حالةً” من الثقة والطمأنينة، وهو ما يترتب عليه صدقٌ مطلقٌ وصبرٌ بلا حدود، وأريحية في البذل والتضحية بكل شيء حتى بالأنفس بلا عنتٍ وعن طيب خاطرٍ. والحالة هذه، هي التي تجعل السواعد عفيَّةً والنفوس أَلِقَةً والأفئدة متوثبةً والعقول جليةً والأذهان مشحوذةً، فتبتدع وتأتلق وتأتي بكل جديدٍ مبهرٍ، ذلك أن خفايا النفوس كثيرة لا يعلمها إلَّا الله، وقدرات الإنسان لا حدود لها متى توفرت لها الإرادة المتفائلة والعزيمة الصُلبة. والحالة هذه، هي الحاضنة الإيجابية لكل نصر عظيم عبر التاريخ، إذ ترى الناس قد جادت قرائحهم وسخت نفوسهم وفاضت عليهم أنوار ملائكية وإشراقات علوية، فارتقت بهم فوق البشر العاديين، وسمت بهم على دهماء الناس والخاصة معًا، لتصنع منهم خاصة الخاصة، بل تصنع منهم أسطورتهم المتفردة، وعبقريتهم الفذَّة.

هذه الحالة الكيفية النوعية الإعجازية، يمكنك أن تدركها جليةً في المقاومة الفلسطينية قليلة الإمكانيات كثيرة الآثار والانتصارات على نحو ما رأينا في الأيام الماضية، كما يمكنك أن تدركها تاريخيًا في نصر أكتوبر قبل خمسين عامًا، وفي حطين صلاح الدين على الصليبيين، وفي عين جالوت على المغول، وفي اليرموك على الروم، وفي بدر على كفار قريش، وفي ذي قار على الفرس، وفي فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح، وفي الزلاقة على يد يوسف بن تاشفين والمرابطين، هذه الحالة هي حيثية كل نصرٍ عظيمٍ، ومن دونها لا نصر البتة، إذ لا تنفع العنتريات والحناجر الصاخبة والغرور والكبر والغطرسة.

غير أنِّي في شأن “الحالة” التي أحدثك عنها بوصفها أهم عناصر النصر، أريد أن ألفت نظرك إلى سرٍّ من أسرارها، وهو “الحب” الذي يشكِّل المتن الأهم، والعمود الفقري في العلاقة بين القائد والمقودين، بل بين القائد وزمرة أفراد المجتمع ومكوناته المختلفة، ذلك أنَّ الحب شعورٌ تفيض به الأنفس طواعيةً ولا يقوم على السلطة والخوف والجبروت، وإنَّما ينبثق من رسوخ الاقتناع بكفاءة القيادة، ويشرق من نبعة الإعجاب والرغبة الجامحة في الطاعة، وتمثُّل الشخصية العامة للقائد، والاجتهاد في تحقيق الأهداف المرسومة على أكمل وجهٍ، بل العمل على كمال إتقانها والإبداع فيها، لذلك كان الحب ضربًا من ضروب المجد الذي يحرزه القائد حين يتسلل إلى النفوس فيستقر فيها، متربعًا عليها عن آخرها، بلا قهرٍ من سيفٍ أو طغيانٍ وجبروتٍ من سلطانٍ. وأعظم ما في الحب أنَّه يجعل الأنفس متناغمة، كأنَّها تنسج على نولٍ واحدٍ، وتعزف مقطوعة يحفظها الجميع عن ظهر قلبٍ.

هذا الشأن التناغمي يجعل العلاقة بين القائد والمقودين شفيفةً، ويمكِّن لفعل استجابةٍ سريعةٍ ناجزةٍ، ويخلق من القلة كثرةً ومن الضعف قوةً، لأن الحب المكين بين القائد والمقودين هو الأساس الحق لشرعية القيادة، وهو الذي يمدها بمداد العزم، ويؤكد فيها جوهر الإيمان بعدالة القضية وقداسة الحق، وهو ما نفهم به القصد من قوله تعالى: “كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ” (البقرة: 249).

هذه هي الحالة الغزاوية المقاومة، التي صبرت على الحصار عشرين عامًا، التي انتصرت رغم ضعف الإمكانيات وزلزلت الكيان الغاصب، وفعلت ما لم تفعله جيوش نظامية عديدة ذات ميزانيات كارثيةٍ. إنها حالةٌ تجسِّد عمليًا تفاؤل الإرادة رغم تشاؤم العقل على حدِّ مقولة المثقف الإيطالي الكبير جرامشي، بل هي الإرادة وقد نزعت إلى فعل القوة وانتزاع الحق من براثن الظلم والطغيان، فجعلت العقل يقشع التشاؤم، وينفتح على أنوار الغلبة وشهوة النصر المبين، وهي ما أغرتنا بالثناء على مجدها امتثالًا لقول المعري الشهير:

جمالُ المجدِ أن يُثني عليه             ولولا الشمسُ ما حَسُنَ النَّهارُ.

يتبع…

مقالات ذات صلة:

إسرائيل تخسر واقتصادها ينهار

ستنصرون.. ويهزمون والموعد الله

غزة والغزاة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د. عبد الرحمن عبد السلام محمود

أستاذ النقد الأدبي الحديث بكلية الألسن جامعة عين شمس وكلية أحمد بن محمد