فيلسوف بكل بساطة.. وإنسان إلى حد عظيم
سيغيبنا الموت وسيمحونا الفناء وسنصير ترابًا تذروه الرياح، لكن حياتنا ستظل ممتدة ممدودة بما كان موصولًا منها بعلم أو عمل، والاثنان في حقيقة الأمر يتصلان بالوجود كله فيما لا نهاية له من صلات مما نعرف ومما لا نعرف ومما نبصر ومما لا نبصر، ومن رحمة الله بعباده أن ذلك كله معقود بأبسط الأعمال الصالحة الجميلة وأعظمها (زرع شجرة أو بناء جامعة أو مستشفى مثلًا)، ويتساوى في ذلك الفلّاح الأمي الذي نشَأ ولده على الصدق والطهر، أو العالِم الذي يسّر على الناس أمرًا في دين أو دنيا.
العرض الموهوم
المهم أن ندرك أن العرض الموهوم الأول كان كذوبًا وخادعًا إلى الحدود القصوى من الكذب والخداع، لأنه لم يقم على تصور افتراضي ولم يثبت عليه دليل، ومع ذلك قبلناه!
أما العرض الموهوم الأول الذي قبلناه فهو حولنا ومعنا وبنا ومنا وإلينا ولنا، ويكاد يكون الخيط الرفيع الواصل بين ميلادنا وموتنا، لقد جئنا به إلى الدنيا ونحن نحمل خميرتها القديمة من اللا شيء واللا معنى واللا قيمة واللا غاية، واللالالاند! خيالي لا علاقة له بالواقع! بل لا يشم رائحته حتى.
إنه الخُلد والمُلك، العرض الموهوم الذي لم يره أحد ولم يحكي عنه أحد ولم يعاينه أحد، لا رأينا أحد خلد قبلنا، ولا رأينا أحد مكث في ملكه دون أن يشيخ ويبلى ويتداعى، ويصبح حدوتة ملتوتة من حواديت الحكايات المسلية، وهم كذلك بالفعل إلا إذا؟ ومع ذلك فقد صدّقنا الموضوع كأنه حقيقة، ويا لتعاسة من يعيش ويموت في فردية مجدبة عجفاء فانية.
من أجمل وأروع ما قرأت في ذلك أن أحد الأصدقاء قال لصديقه: “تعرف أفضل طريقة نأخذ بها أموالنا وأملاكنا معنا بعد أن نموت؟”، قال له صديقه: “لا”، قال: “أن نرسلها قبل وصولنا لتكون في انتظارنا”، كان يقصد بذلك الآية الكريمة في سورة المزمل: “وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا” (20).
في ذكرى رحيل المفكر عبد الوهاب المسيري
صادف يوم 3 يوليو ذكرى وفاة الدكتور عبد الوهاب المسيري، إنها الذكرى الرابعة عشر (3/7/2008)، ومن أصدق ما قال الراحل الكبير الأستاذ هيكل في حياته تلك الجملة واصفًا بها الدكتور عبد الوهاب: “إنه أحيا عصره وزمانه وأمته بما قدمه، وإنه أعطى أحلى سنوات عمره حاملًا عبئًا علميًا وبحثيًا وتنظيميًا وماليًا، اقتص ضرائبه من شبابه ومن صحته”.
هذا صحيح تمامًا بل ومن أصح ما ذكره الأستاذ هيكل في كل حياته الطويلة رحمه الله، وكان فيه الدكتور المسيري مصداقًا صادقًا صدوقًا أمينًا مؤتمنًا على ما تعلمه سيدنا أدم من العلم الأول الذي جاء به إلى الدنيا، امتدادًا لذرية آدم عليه السلام كما جاء في الآية الكريمة “وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا”.
“غاب المسيري وبغيابه لن تعود القاهرة كما كانت”، لم تكن الجملة مبالغة من إنسان يتمتع بطيبة قلب صافية ووفاء خالص لصديق عرفه وأحبه، إنه د/ بشير نافع أستاذ التاريخ المعروف وأحد أحب الناس إلى قلب د/ عبد الوهاب، هو وصديق عمره د/ مازن النجار حفظهما الله.
قال أيضًا في نفس المقالة التي نشرها بعد أيام من وفاته رحمه الله: “ما هو أبلغ وأكثر مدعاة للحزن في وداع المسيري هو الإنسان خلف هذه الإنجازات جميعًا”. كان عبد الوهاب المسيري إنسانًا بكل ما يحمله المثال الإنساني من معنى، رب أسرة وصديق ومعلم ترى تعامله مع أبنائه وأحفاده فتصاب بالدهشة، وترى استقباله لأصدقائه وتلاميذه فتصاب بدهشة أكبر.
من أقوال عبد الوهاب المسيري
في عام 2005م نشرت لي مجلة القاهرة مقال عن الدكتور عبد الوهاب رحمه الله، وكان يحمل مني بعض العرفان لما كان منه وبما يتجاوز كل ما هو شخصي، وتكرم الراحل الأستاذ صلاح عيسى بنشره والإشارة إليه في الصفحة الأولى، فاتصل بي الدكتور عبد الوهاب قائلًا: “مين الراجل الوحش اللى أنت كاتب عنه ده؟” وأفاض في كلماته الودودة بسخائه المعهود مع أصدقائه.
لم أجد في ذكراه التي يتغافل عنها الغافلون عمدًا وإصرارًا إلا نقل بعض المقاطع المهمة والحيوية القيمة والمعنى، التي كنت قد كتبتها من 17 عامًا قبل انتقاله ووفاته بثلاث سنوات رحمه الله.
قال أيضًا: “الإصلاحيون لا يريدون الاستيلاء على الدولة، لكنهم يريدون محاصرتها في أدوار محددة، لا ينبغي للدولة أن تزيد عليها أي دولة حتى تكون الأمة هي الأقوى والمجتمع الأهلي هو الأكثر نفوذًا وتأثيرًا في تصريف الحياة وإدارة شؤون الناس”، واصفًا الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر “بالمشاركة السياسية”.
مقالات ذات صلة:
الشذوذ الجنسي في فكر د. عبدالوهاب المسيري
نخبة المفكرين الجهاز المناعي للمجتمع
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا