المفكرون المصلحون والأنبياء (صائغي النفوس)
أُناس بارزون
على مر العصور تغيَّرت قدرات وسبل الإنسان في حياته على هذا الكوكب، واعتمد هذا التقدم والتطور الذى أحدثه على قدرته على إدراك معانى ومفاهيم وحقائق الوجود الذى يعيش فيه سواء كان وجود طبيعي ( البيئة التي يعيش فيها ) أو وجود معنوي ( اعتقاده الذى يشكل له غاية معينة ويُرسِّخ لديه قيمه الخاصة )،
وفى اختلاف تلك العصور ثمَّة أُناس بارزون حاولوا ألا يكتفوا بكونهم يعيشون رحلة معينة و يقومون بسلك مسالك آبائهم وأجدادهم، ومع كل عصر برز لنا أُناس؛ منهم من كان نبي أو رسول أو مُصلح أو مفكر.لم يكتفِ فقط أن يدرك حقائق الوجود، وأن يعلم الصواب من الخطأ.
بل وحمل على عاتقه مهمة إنسانية أخرى تجاه مجتمعه وبنى جنسه، إلا أنَّ المصلحين مشتركون مع الأنبياء في مناداتهم بصلاح المجتمعات وإصلاح البشر وترسيخ القيم الإنسانية، وإقامة العدل في الأرض إلا أنهم ليسوا كالأنبياء في مسألة الاتصال بالخالق عز وجل. ولا يحدث لهم معجزات كما حدث لأنبياء الله.
ومن خلال إيمان هؤلاء المصلحون بالقيم الإنسانية وضرورتها لاستقامة الحياة في أي مجتمع، شرعوا بتعليم الناس وتوجيههم لما فيه الصواب وكشف حقائق الأشياء. فينصحوهم بالابتعاد عن الخطأ والقدوم على الصواب ويدعونهم بكل حب لمكارم الأخلاق.
أنبياء الله كموسى وعيسى ومحمد صلاة الله عليهم أجمعين كان سبيلهم الهداية والإصلاح؛ فنجد مثلاً سقراط الذي كان من علماء وفلاسفة زمانه، ونجد كذلك الكثير من الرموز التي لم تكتفِ بأن يكون وجودها فقط بطلبها لمصلحتها الشخصية.
فبعد أن أدرك المصلحون حقيقة الوجود وسبل صلاح النفوس وسعادتها قاموا بتعليم الناس ونصحهم. وكانت تلك من الصفات الأصيلة في أي مصلح؛ فهو لا يكتفى فقط بصلاحه؛ بل يسعى بجوار ذلك إلى إصلاح واقعه الذي هو فيه، فلم يكونوا مجرد عابري سبيل، لم يتركوا أثر، بل تركوا أثرهم في عصورهم ولمن أتى بعدهم.
حدود حريتك
إن أمعن أي أحد فينا النظر في عالمنا؛ سيجد أننا نعيش في كوكب من كواكب أحد المجموعات الشمسية، وهنا نركز على قول ” نعيش ” فالجميع يعيش في هذا الكوكب ولنفترض أنه بيت واحد يجمعنا جميعا فيه؛ له قوانين مُعينة تتأثر بأفعالنا ويعود ذلك الأثر علينا؛ فوجب أن نكون على حذر.
وهنا ليس أنا فقط الذي أكون على حذر بل أنت كذلك؛ ففعلك الذي ستفعله في هذا المنزل سيعود أثره علىَّ كذلك ولن يعود فقط عليك وحدك. وهنا يظهر لنا من التفاعل مفهومًا للحرية؛ إن كان المرء حرًا؛ فهل حريته مُطلقة؟ ماذا إن كان أثر فعله سيعود على غيره؟! هل يظل هنا حر في فعله كما يريد وهو يضر غيره ؟!
والحقيقة أنه بالطبع لا. لأنه ليس وحده الذي يعيش في هذا المنزل ولأن فعله هذا لن يضره وحده. وجب أن تكون تلك النقطة خاصة بقاعدة أكبر وهي حرية الجميع وبالأحرى حقوق الجميع.
لنضرب مثال يوضح ما تقدمنا به إن كان مجموعة من الناس في سفينة، وراح أحد من فيها بخرقها، هل هنا فعله يكون حرية شخصية ولا يجب أن يتدخل أحد في حريته؟!
أعتقد الأمر ساذج؛ ففعله هذا قد يُسبب الضرر ليس فقط له بل لكل مَن في السفينة وهنا يخرج مفهوم آخر للحرية؛ وهو أن الإنسان حر في كل شيء عدا ما يسببه من ضرر في واقعه. وبالتالي سيصيب من معه في هذا الواقع بهذا الضرر، وهنا لابد أن يتم تحديد الضرر؛ فالسارق يحدث له نفع والمسروق يحدث له ضرر وهنا المعيار به خلل كذلك.
ولكن لأن الأمر هنا يمس جوانب عديدة ويشمل أجزاء لا حصر لها؛ كان تشريع الله في رسالته للناس. به الحكم والضبط لتلك الأمور فيكمل لهؤلاء المصلحون ما بدأوه عقلهم وعُصى عليهم في تلك الأمور لكونها ( منطقة فراغ عقلي ) ولكون الخالق وحده هو المحيط بكل المخلوقات.
وهنا هل سيتقبل الجميع هذا المفهوم للحرية أم لا؟!
لنعود لمثالنا وهو ترك أصحاب السفينة للمقدم على خرقها كامل الحرية بمفهومه الشخصي الذى هو خاطئ طبعًا؛ سنجد أن الشر أو الضرر الذى سيحدثه هذا الشخص؛ سيصيبهم جميعًا. وهنا استوجب لمن يعي المفهوم الواقعي للحرية أن ينصح به هذا المُقدم على خرق السفينة.
دور المُصلح
هنا يظهر دور المُصلح في أبسط صوره؛ فإنه مدرك لمفاهيم وقيم واقعية يحاول ترسيخها منعًا لضرر الجميع؛ بل ولإصلاح النفوس والمجتمعات مستندًا على إقامه العدل وفق ما شرعه الخالق.
المصلحون هم مفكرون وفلاسفة يملكون علوم عقلية وأدلة على الواقع والمفاهيم وعلوم أخلاقية مستنبطة من مضامين رسالات الله للبشرية؛ فهموها وطبَّقوها خير تطبيق ويدعون للعلم والعمل؛ فهم بذلك يحملون مضامين الحق من عدل وخير وجمال وغيرها من العلوم التي يحتاجها المجتمع إجمالًا.
هذا يستوجب منهم أن يرسموا للمجتمعات خطوطًا عريضة لما هو صائب أو خطأ؛ فهم بدورهم قادة فكر وموجهين للمجتمع ولكل مختص من علماء الطبيعة دوره الذي يظل هو العالم فيه.
وللمقال تكملة .