حاول بعض المؤرخين الدفاع عن أحد أكبر الخونة في تاريخ مصر، وهو المعلم يعقوب الذي تعاون مع الاحتلال الفرنسي لمصر، الاحتلال الذي سموه بداعي التجميل “الحملة الفرنسية على مصر“، في حين من المعروف أن الفرنسيين في تلك الفترة قتلوا من الشعب المصري –بالاشتراك مع أعوانهم من الخونة المحليين– ثلاثمائة ألف نفس على أقل تقدير، وهو ما يُقَدَّر بسُبع الشعب المصري في ذلك الوقت، وقد حاول بعض المؤرخين المسيحيين تصوير المعلم يعقوب في تعاونه مع القوات الفرنسية ضد المصريين على أنه ثائر على “الاحتلال العثماني”، وهو تبرير للخيانة لا يمكن تصديقه، لأنه يصنف الدولة العثمانية احتلالًا ومع ذلك يصنف الاحتلال الفرنسي استقلالًا، فجعلوا الخائن بطلًا وطنيًا بدعوى أنه سعى لاستقلال مصر بمساعدة قوى أجنبية، وقد تبنت هذا الادعاء المزيف أسماء مسيحية شهيرة مثل: الدكتور لويس عوض والدكتور أنور لوقا والدكتور شفيق غربال والقمص متياس نصر منقريوس صاحب كتاب “الجيش الوطني القبطي”، لكن على جانب آخر فإن كثيرًا من الشخصيات المسيحية الأخرى رأته عميلًا صريحًا للاحتلال وخائنًا، ومنهم جمال أسعد عبد الملاك ورفيق حبيب وغيرهم.
بل إن محاولة تبرئة المعلم يعقوب من الخيانة وسفك دماء المصريين هي في حد ذاتها خيانة وطنية، وقد شهد التاريخ بالفشل الذريع لهذه المحاولة، فلا يُذكر المعلم يعقوب إلا وتذكر خيانته وتصحبه معها اللعنات، وجدير بالذكر أن المعلم يعقوب يوحنا من الناحية الكنسية كان محرومًا بقرار من بطريرك الأقباط في عصره، وهو خائن لوطنه عند الغالبية العظمى من المفكرين والمؤرخين، ويقول الكاتب رجاء النقاش في كتابه “لويس عوض في الميزان” إن يعقوب كان مثل المارشال بيتان في فرنسا إبان الغزو النازي، وإنه حمل السلاح ضد أبناء وطنه، رافضًا ما ذهب إليه بعضهم من أن يعقوب كان يطمح إلى أن تكون مصر دولة مستقلة بمساعدة فرنسا أو إنجلترا.
تبرأت منه الكنيسة المصرية وقتها لأنه فضلًا عن مخالفة الأقباط في الزي والحركات اتخذ له امرأةً من غير جنسه غير شرعية، وقد نصحه البطريرك فجاوبه يعقوب جوابًا عنيفًا فسخط عليه، فما كان من يعقوب إلا أن تجرأ على دخول الكنيسة مرة راكبًا جواده شاهرًا سيفه لكي يهين البطريرك.
بداية المعلم يعقوب حنا
ولد ذلك الرجل بملوي بالمنيا عام 1745 تقريبًا في عهد علي بك الكبير، والتحق بخدمة سليمان أغا رئيس الانكشارية، واستطاع خلال إدارة أملاك رئيس الانكشارية أن يكوِّن ثروة طائلة بوسائل غير شريفة، وقد كان في الثالثة والخمسين من عمره عندما غزت الحملة الفرنسية مصر بقيادة نابليون بونابرت عام 1798.
حدث أن كلّف الجيش الفرنسي عميد الأقباط المسمى بالمعلم جرجس جوهري أن يرشح له بعض المتخصصين في الإدارة لكي تسير الحياة في مصر سيرها الطبيعي، فرشح له أقباطًا كان منهم يعقوب يوحنا، فعيَّن نابليون بونابرت الخمسة، واختار يعقوب يوحنا مديرًا عامًا لتموين الحملة الفرنسية وإمدادها في مصر، فصار عليه إطعام عشرات الآلاف من الجنود الفرنسيين في مختلف مدن مصر وقراها، فاستطاع يعقوب من هذه المهمة أن يختلس لنفسه كثيرًا من الأموال مما ضاعف ثروته من حرام، ثم أسند إليه الجنرال ديزيه مهمة جباية الضرائب من أهل الوجه القبلي فنفَّذ تلك المهمة أيضًا وبالأسلوب نفسه.
كان يعقوب على علم وكذلك الفرنساوية بأنه عند جمع الجباية قد يرفض الشعب المصري الانصياع لأوامرهم، وأراد يعقوب أن يجد للفرنساوية حيلة يسهل لهم بها المهمة، فصنع لعمال الجباية ملابس مثل ملابس العساكر العثمانية حتى يظن الناس أن تحصيل الضرائب هي بأوامر الخلافة، ويذكر الجبرتي ذلك في كتابه “مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس” فيقول: “وفي خامس عشر سافر عدةٌ من الإفرنج إلى جهة الصعيد وعليهم صاري عسكر المتولي على الصعيد اسمه “دزة”، وبصحبتهم يعقوب القبطي ليدبر لهم الأمر ويعمل لهم أنواع المكر والخداع، ويطلعهم على الخبايا ويصنع لهم الحيل، فمنهم أنه كان يرسل الجماعة من الإفرنج لقبض الأموال وطلب الكلف، ويلبس بعضًا منهم لبس العثمنلي ويكتب لهم التحذير من المخالفة، ويذكر لهم أن هذا أمرٌ سلطاني، فيروج ذلك على كثيرٍ من أهل البلاد، ويمتثلون الأوامر”.
الفيلق القبطي
وحين أرسل نابليون حملة إلى الصعيد يقودها الجنرال ديزيه لإخضاع المصريين للسيطرة الفرنسية، رافق المعلم يعقوب الجنرال الفرنسي في حملته التي كانت تهدف إلى مطاردة المماليك الذين فروا إلى الصعيد، بالإضافة إلى القضاء على جيش مراد بك الذي خدم فيه يعقوب سابقًا مما يؤكد طبيعته الخائنة.
ولقد كُلِّف يعقوب بتمهيد الطريق أمام الفرنسيين للاستيلاء على أموال الشعب المصري بسبب خبرته بجغرافيا الصعيد وطرقه وأوضاعه الاجتماعية، ثم عين مستشارًا خاصًا لـلجنرال ديزيه لأنه كان خبيرًا بطبيعة المماليك وأساليبهم وأفكارهم وخططهم الهجومية والدفاعية، ولأنه كان من جند مراد بك وكان يعرف الجميع، وهذا ما ساعده على إنشاء شبكة من الجواسيس والعملاء للاستطلاع وجمع المعلومات عن تحركاتهم لمد الفرنساوية بهذه المعلومات.
يذكر الجبرتي حادث تكوين الفرقة القبطية واصفًا الجنود الأقباط بالمجرمين فيقول: “يعقوب القبطي لما تظاهر مع الفرنساوية وجعلوه ساري عسكر القبطة جمع شبان القبط وحلق لحاهم وزياهم بزي مشابه لعسكر الفرنساوية”.
هكذا شكل يعقوب “الفيلق القبطي” الذي يعتبره المؤرخ محمد عفيفي محض “ميليشيا عسكرية” لخدمة الفرنسيين.
المعلم يعقوب حنا والحملة الفرنسية
يقول الجبرتي: “لما تظاهر يعقوب القبطي مع الفرنساوية وجعلوه ساري عسكر القبطة جمع شبان القبط وحلق لحاهم وزياهم بزي مشابه لعسكر الفرنساوية، وصيرهم ساري عسكره وعزوته وجمعهم من أقصى الصعيد، وهدم الأماكن المجاورة لحارة النصارى التي هو ساكن بها خلف الجامع الأحمر، وبنى له قلعة وسوَّرها بسور عظيم وأبراج وباب كبير. بل إنهم كانوا يقطعون الأشجار والنخيل من البساتين جميعها، ولم يتورعوا عن هدم المدافن والمقابر وتسويتها بالأرض خوفًا من تترس المحاربين، وبثوا الأعوان وحبسوهم وضربوهم، فدهي الناس بهذه النازلة التي لم يصابوا بمثلها ولا ما يقاربها”، بل كان زعيمهم (برتيلمي) الذي تلقبه العامة بفرط الرومان لشدة احمرار وجهه، كان يشرف بنفسه على تعذيب المجاهدين وهو الذي قام بحرق المجاهد سليمان الحلبي قاتل كليبر، وكان هذا البرتيلمي يسير في موكب وحاشية ويتعمد إهانة علماء المسلمين ويضيق عليهم في الطرقات محتميًا في أسياده الفرنسيس.
الجنرال فرط الرمان في زمن الحملة الفرنسية
يقول عنه الكاتب الراحل صلاح عيسى في كتابه “هوامش المقريزي”: اسمه الأصلي (بارتلمي سيرا) وجنسيته يوناني، وكعادة المصريين في السخرية من جلادهم سموه (فرط الرمان) وكان هو الآخر متعصبًا ضد المسلمين سواء كانوا مصريين أو مماليك، وفي هذ الزمن –أي في أواخر العهد المملوكي– كانت مصر ميدانًا سهلًا للمجرمين والرعاع من الأجانب، ولأن بارتلمي كان يحترف العسكرية فقد التحق بخدمة الأمير المملوكي محمد بك الألفي، في فرقة الطوبجية أي سلاح المدفعية، وعندما جاءت “الحملة الفرنسية” إلى مصر وعين وكيلًا لمحافظة القاهرة، أشبع بذلك نهمه للقتل والتعذيب، إذ كانت هوايته المفضلة القتل الجماعي للمماليك والمصريين، على السواء، وكان يطوف في شوارع القاهرة مسلول السيف، وحوله وأمامه قوة تبلغ المائة من اليونانيين، غلاظ القلوب على شاكلته، وكان يطوف أحيانًا في صحبة زوجته وكانت مثله مجرمة تتلذذ وتعشق القتل.
وفي الليل كان بارتلمي يداهم البيوت بحجة البحث عن الأسلحة أو الفارين من المماليك أو البدو المتمردين، فإذا لم يجد أحدًا من هؤلاء وأولئك كان يقتل الفلاحين الذين يصادفهم في طريق عودته إلى القاهرة، ويجمع رؤوسهم ويحملها رجاله معهم، وكان يحرص على أن يعود من جولاته بنتائج إيحابية تتمثل في رؤوس قتلاه، وكان يرى أن أكبر سعادة تلحق به من طوافه هي ألا يعود إلى القلعة من دون “إيراد آدمي”، سواء كان هذا الإيراد رؤوس قتلى موضوعة في زكائب أو أحياء قبض عليهم.
بسبب إسرافه في القسوة وإمعانه في الظلم ورغبته في التشفي من الشعب المصري، ذهب بارتلمي مباشرة –بعد واحدة من جولاته– إلى الجنرال دي بويوي الحاكم العسكري الفرنسي لمدينة القاهرة، الذي كان لحظتها يتناول الغداء مع بعض ضيوفه فقدم إليه بارتلمي زكيبة ظن الجنرال أول الأمر أنها تحوي هدية، مثل بطيخ أو شمام، فأمر بفض الزكيبة فإذا بها تحتوي على اثني عشر رأسًا من رؤوس المصريين الذين قتلهم بارتلمي سيرا، وجاء يعرضهم على رئيسه الجنرال فخورًا ومختالًا. لكن الحاضرين امتعضوا من هذا المشهد الدامي، وأمر الجنرال بإخراجه مع زكيبته من قاعة الطعام.
كراهية المصريين للمعلم يعقوب
كان من البديهي أن تشتد كراهية المصريين ليعقوب وأعوانه وجيشه الذي ألفه من الأقباط لمعاونة الفرنساوية، خصوصًا أنه تولى جمع الضرائب من أهالي الصعيد بأبشع الوسائل في الجباية وأعنفها، وعندما عاد يعقوب إلى القاهرة بعد حملة الصعيد، كانت ثورة القاهرة الأولى قد وقعت، بسبب فرض الفرنسيين للضرائب الباهظة بخاصة على التجار على عكس وعود نابليون عند قدومه إلى مصر، كما بالغ الفرنسيون في تفتيش البيوت والدكاكين بحثًا عن الأموال وهدموا أبواب الحارات لتسهيل مطاردة رجال المقاومة، وهدموا المباني والمساجد بحجة تحصين المدينة، وعندما اكتشف يعقوب مقدار كراهية الشعب المصري له، حوّل بيته إلى ثكنة عسكرية محصنة ليحمي نفسه منهم، وجعل عليها حراسة مسلحة ليلًا ونهارًا، ذلك في الوقت نفسه الذي بدأ فيه نابيلون بناء قلاعٍ عدة حول القاهرة لكي تحيط مدافعه بالقاهرة كلها، وقد احتاج لأن يهدم مئات القصور المملوكية التاريخية من أجل استخدام حجارتها في بناء تلك الحصون والقلاع، مما أتلف معظم ثروة مصر المعمارية المملوكية النادرة، واستخدم الفرنساوية قلعة يعقوب لتصبح واحدةً من قلاعهم الحصينة في القاهرة.
وللحديث بقية…
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا