ما هي خطوات الوصول الى سعادة الإنسان الحقيقية؟
يقول الفلاسفة إنّ معرفة الأمور على حقيقتها يوصل للسعادة، بينما يرى كثير منا غير ذلك؛ فالمثقّف المفكّر يتحمّل أعباء إضافية نتيجة رؤيته لتفاصيل لا يراها الآخرون، و لاهتمامه بالشأن العام، و كذلك لشعوره بالمعاناة في المجتمعات جامدة الفكر المتحفّظة على كل ما هو جديد أو غريب، بالإضافة للظروف الخاصة بالمفكرين في المجتمعات التي تعاني من الاستبداد.
و الشعور بالسعادة “حضوري” كما يصنفه علم المنطق، فهو يحضر بذاته في نفس الشخص الذي يشعر بالسعادة. فلا وجه لأن تنكر أنّ شخصًا سعيدًا يقوم بالاحتفال مثلًا هو بالفعل سعيد، فلهذا الشخص فقط أن يحدد ما إذا كان سعيدًا أم لا .و من الملاحظ إنّ الكثير من المفكرين و الفلاسفة عاشوا حياة تعيسة و أصيبوا بالاكتئاب. فكيف يجتمع كلّ ذلك مع كون المعرفة سببًا للسعادة؟ (*)
للإجابة على ذلك نعود من جديد للفلسفة التي تقول إنّ الشر لا ينبع أو يصدر من الكمال و إنما هو يصدر من النقص،كما أنّ سبب الظلّ ليس نور الشمس و إنما هو احتجاب النور، و في الغياب التام للنور يهيمن الظلام، و الكمال المقصود هو كمال كل شيء: العلم و العدل.. إلخ، بينما الشّر هنا هو الضيق أو الألم. فالعاقل المتفكّر في الحقيقة يصطدم أول ما يصطدم بجهله، و لا يحب الشعور بالنقص و الخطر، كالخطر من أن يكون -لجهله- مخدوعا مستغَلّا. و النفس تتعامل في مواجهة الأخطار بطريقة من اثنتين: المواجهة أو الفرار. فأمّا من يواجه و يثابر فيتعلّم و تتفتح أمامه أبواب أخرى للتعلم، و أما من يهرب من العلم فيقبع في جهله ويتعامل مع الآخرين من منطلق ثقته فيهم المبنية على الاستحسان متغير المعيار.
وما سعادة الجاهل إلا سعادة هشّة عارضة مهما طالت وأثمرت، إذ أنها مبنية دون علم بالضروريات و الأخطار، ووجودها معتمد على الزائل لا على الثابت. فسعادة الغني بقدرته على العيش بيسر و رفاهية مرهونة ببقائه غنيًّا، و سعادة الموهوب بتميّزه و وضعه الاجتماعيّ المرموق تتبدد متى حيل بينه و بين ما يميّزه. أما سعادة الإنسان الحقيقية فهي التي ترتبط بجوهره؛ من هو وماذا يمثّل في الحياة. بالإضافة لما سبق:فالسعادة في غير موضعها تورث التقاعس عن العمل وطلب العلم. ولولا قلة في كل مجتمع اهتمّت باقتحام المجهول و التحصّل على العلوم في كل مجال لما قامت لبني البشر حضارة.
وإذا عدنا لتفحص سائر مسببات الهموم و التعاسة للمفكرين يمكننا ربطها جميعا بأسبابها الحقيقية. فالعزلة المفرطة والابتعاد عن الاختلاط بالمجتمع يمنع الشخصية الاجتماعية من النمو و يقلل الألفة بين الشخص المنعزل ومجتمعه، والعامل الاجتماعي كذلك أساسي في صناعة نجاح الإنسان و في تحقيق الاتزان النفسي له. و المجتمع المنصرف عن العلم و العمل النافع، مجتمع حاضن للفساد عرضة لكافة الأخطار الداخلية والخارجية، و ذلك لا يكون إلا بعدم إعطاء العلم والعلماء حقّهم ومكانتهم المستحقة في المجتمع. ومعرفة الإنسان بوجود خطر أو ظلم، و عدم قدرته على فعل شيء مؤثر حياله، تعني إمّا حاجة الإنسان لتوسيع مداركه و زيادة قدرته على إيجاد الحلول والتعامل الاستباقي الوقائي مع مواقف كتلك، أو إنّ القدرة موضوعة في أيدي أشخاص لا يتحلّون بالعلم و المسئولية، والنظام لا يملك القدرة على إقامة العدل، وهكذا.
إذن في كل الأحوال فمعرفة الحقيقة تورث سعادة عاجلة في الإفاقة من الغفلة وغير ذلك، و سعادة آجلة تأتي من اتّساق الإنسان و المجتمع مع الحق و إقامته للعدل، إذا اختار ذلك و عمل له، و السعادة الكبرى هي سعادة الإنسان الدائمة التي يجدها في تزكية نفسه و السمو بها عن الرذائل. والله عنده حسن الثواب.
(*) يذكر د.عبد الستار إبراهيم الكثير من الأمثلة على ذلك، مع تحليل مفيد للعلاقة بين الإبداع والاضطراب النفسي في كتابه: الحكمة الضائعة
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.