مقالات

يوميات بني مجد .. السفر إلى القاهرة

لم يكن من الشائع ولا من اليسير أن يسافر الإنسان من الصعيد إلى القاهرة. ولماذا يسافر؟ إن حياة الإنسان القروي لا تحتاج إلى زيارة القاهرة، فهي مرتبطة ارتباطًا كاملًا بالزراعة وما يترتب عليها: تربية الماشية، وبيع المحصول في أوانه لشراء تلك الأشياء القليلة التي لا يمكن عملها في البيت: الملابس، الأحذية، ولوازم بناء بيت جديد إذا تزوج أحد الأولاد.

كيف كان حال المسافر في المجتمع الريفي؟

كنا نسمع عن أحد أعمامي الذي لم يخرج من القرية سوى مرات تعد على أصابع اليد الواحدة؛ يوم استخرج بطاقة شخصية، ويوم استدعوه لكي يتسلم شهادة الإعفاء من الخدمة العسكرية، ويوم مرور الرئيس جمال عبد الناصر بمدينة منفلوط  بالقطار.

كانت القاهرة تمثل لعمي ولكثيرين مثله عالمًا سحريًا غامضًا، لم يزرها في حياته، ولم يرها عبر جهاز التليفزيون، فلم تدخل الكهرباء القرية إلا بعد  أن بلغ من الكبر عتيا، وفقد بصره. ولأن الحياة في القرية رتيبة فقد كان سفر أحد أبنائها إلى القاهرة يمثل خبرًا مهمًّا.

قبل السفر بأيام كانت القرية تعلم، في ليلة السفر كان الرجال يزورون المسافر في بيته لتوديعة ولكي يطلبوا منه أن يبلغوا سلامهم إلى أقربائهم المقيمين في القاهرة، وربما حمّلوه بعض الأشياء. في حجرة أخرى، داخل البيت، كانت النساء يزرن والدة المسافر وزوجته، وهي زيارة لا تغني عن زيارة أخرى في اليوم التالي، إذ يقلن لها عبارة مكررة، إن المسافر قد ترك فراغًا في القرية.

يوم السفر يستيقظ الجميع مع أذان الفجر، ويرافق المسافر إلى محطة منفلوط عدد من أبناء العائلة، يذهبون معه على ظهور الحمير، بحيث يركب كل منهم حمارًا ويضع أمامه “قفة” كبيرة، وهي عبارة عن سلة من  الحلف مغطاة بقماش سميك، يربط بينهما بدوبارة قوية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

العلاقات الإنسانية في مجتمع الريف

المجتمع الريفي

كان المسافر يحمل إلى أقاربه في القاهرة خيرات القرية: الملوخية، والكشك، والفايش، والطيور، والفول، والعدس، بكميات كبيرة، وربما حمل هدايا من أحد أبناء القرية إلى قريب له في القاهرة كذلك، وهذا معناه أن يحمل المسافر أكثر من عشرة “قفف” تحتاج كل واحدة منها إلى رجلين يحملانها فيما بينهما.

كانت “القافلة” تتحرك من بني مجد بعد صلاة الفجر: المسافر على حمار مستقل، يحيط به أبناء العم الكبار، كل اثنين على حمار، وفي الخلف عدد آخر من الرجال، كل منهم على حمار وأمامه “قفة”.

يصل الركب إلى منفلوط، فيتولى أحدهم اقتياد الحمير إلى مكان مخصص لها مقابل أجر بسيط، وينهمك الباقون في حمل القفف إلى رصيف المحطة، أما المسافر فإنه يستخرج تذكرة من الكرتون المقوى، وينضم إلى أهله انتظارًا للقطار.

كان منظر المحطة يعبر عن العلاقات الإنسانية في ذلك الزمان: عشرون مسافرًا، من قرى مختلفة، يودعهم مائتا رجل تقريبًا، أما لحظة وصول القطار فلها حديث آخر.

مقالات ذات صلة:

يوميات بني مجد

لماذا فقدت الأرياف بهجتها؟!

المرأة الريفية.. تحديات وآفاق

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د./ جمال عبد الرحمن

أستاذ اللغة الإسبانية، كلية الآداب والترجمة جامعة الأزهر