فن وأدب - مقالاتمقالات

اللغة كمدخل لفهم العالم – الجزء الثالث

ولعبت اللغة أيضا دورا في التلاعب الشديد الذي يكتنف بعض القضايا التي حازت توافقا أكثر من تلك المصبوغة بالصراعات السياسية والتنافس الحاد. فمثلا يبدو مصطلح “حوار الحضارات” غارقا في “الاستثمار السياسي” عبر التشكيلات اللغوية التي توزعت بين دعوتين متناقضتين، إلى “الحوار” أو “الصدام”، فالحوار يتطلب “التعددية” والتي تدفع بدورها أحيانا،

بل واقعيا إلى “الصدام”، ومن ثم فإن اللغة تلعب هنا دورا في تجميل القبيح، وتضليل الوعي، بدلا من الاعتراف بأن هناك ما يؤدي إلى التناطح، وعلينا أن نعترف به ونفهمه، ثم نعمل على تغييره، ونستخدم في هذا لغة واقعية دقيقة تخلو من الرتوش، وتحترم أفهام الناس.

وربما لا يزيد ما فعله حسن حنفي في وضعه “الاستغراب” مقابل “الاستشراق” عن أن يكون مجرد استخدام اللغة في الإيهام بطرح تصور مغاير لما طرحه المستشرقون، مع أنه في واقعه لم يتجاوز منهج وأفكار فلاسفة ومفكرين غربيين، فهو ابتداء _في نظر الجزيري_ لم يكن بوسعه أن يتعامل مع التراث العربي ـ الإسلامي على النحو الذي سلكه،

وهنا يتساءل: “إذا لم يكن حسن حنفي قد قرأ سبينوزا وفويرباخ وهيجل وماركس وهوسرل، هل كان بمقدوره أن يقدم لنا هذه القراءة التي قدمها للتراث؟”.

وهنا يبدو تناقض حنفي، ولعبه باللغة، حين لا تتفق دعوته إلى قيام علم الاستغراب مع قراءته للتراث الإسلامي بمنهج وذائقة غربية، وهنا يعود الجزيري إلى التساؤل: “ألم يكن حسن حنفي مستشرقا على نحو ما وهو يقدم حلمه الكبير بقيام أمة إسلامية؟”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ومع هذا فإن جاذبية كلمة “الاستغراب” ولمسها وترا في نفوس العرب والمسلمين الذين نظروا إلى الاستشراق باعتباره رأس حربة مشروع استعماري، جعل كثيرين يتحمسون لها، ولا يتوقفون طويلا عند التناقض الذي ينطوي عليه الطرح الذي يخصها.

ألفاظ عدة لمصطلح واحد

وبذا صار “اللفظ” في حد ذاته عندهم ردا كافيا شافيا، مع أن ما جاء تحته كعنوان عريض لا يكفي أبدا، كما أنه يظلم مدارس استشراق علمية بالفعل، وليست سياسية، وقد يجور على الاستفادة من حكمة ومنهج تفكير وتجربة مجتمع متقدم، هو نفسه استفاد من تجربة المسلمين السابقة عليه، أو يحول دون التقدم إلى إبداع مشروع بديل، بدلا من الاكتفاء بالنقد، أو التوقف عند تفكيك الموجود دون الذهاب إلى تركيب أو بناء آخر.

ويعي الجزيري هذه المسألة، ومن ثم طرح في تصور قصير بعنوان “الغرب والإسلام بين إدوارد سعيد وعبد الوهاب المسيري” نقدا لسعيد قائلا: “مع قيمة وأهمية ودلالة وروعة تناوله علاقة الشرق بالغرب، لكنه لم يتجاوز مرحلة البحث والدرس والنقد والتنظير والتأهيل إلى مرحلة أخرى تقدم النموذج المعرفي البديل بصورة واضحة،

والذي بإمكانه أن يحل محل نموذج العلاقة الاستشراقية بين الشرق والغرب”، ثم مدح المسيري باعتباره قد قدم “نموذجا معرفيا بديلا، يستفيد من العلم الغربي، ومن كل العلوم والتجارب الإنسانية، وينطلق في الوقت ذاته من تراثنا”.

وإلى جانب المصطلحين المتقابلين، يمكن أن يكون هناك مصطلح واحد يتم التعبير عنه لغويا بطرق مختلفة، تقف وراء كل طريقة فلسفة أو نسق فكري، رغم أن الناس يرددونه في تسليم تام، وكأنه قد تم الاتفاق عليه بشكل نهائي وقطعي.

وبوسعنا أن نستخلص هذا من رؤية الجزيري لمفهوم “الثورة” في فلسفات متعددة. فهو يشرح تجلياته في نماذج مختلفة من الفكر الفلسفي، وكيف يقوم كل فيلسوف بجعل “الثورة” بعدا من أبعاد نظرته الذاتية، سواء كان يقبلها أو يرفضها، يؤديها أو يناهضها، رغم أنها في حقيقتها كثيرا ما تجاوزت هذه الأطر أو القوالب المحدودة التي كان يرمي كل فيلسوف إلى الإيهام بقدرته على إحكام قبضته عليها.

ليست مجرد وسيلة للتعبير عن الأفكار والمواقف

ويضع الجزيري اللغة واحدة من الوسائل أو الأدوات التي يرصد بها تحولات ثورة يناير المصرية، ويقول هنا: “نحن لا نواجه الواقع مباشرة، بل نواجهه من خلال اللغة والفن والأسطورة والعلم والتاريخ”، وهو قول دقيق عميق، إذ إن كلًا منا لا يرى ما حوله بشكل مجرد إنما من خلال ما استقر في رأسه من تصورات صنعتها التجربة والخبرة والثقافة والتفاعل مع الآخرين،

وكل هذا لا يمكن أن يأخذ مكانه في الذهن دون لغة، حتى لو لم نخرجه في صيغة كلمات في وقت تخزينه، فاللغة هي من يصفه ويضعه في مكانه بمخ الإنسان وعقله، وبها يتم استدعاؤه عند الضرورة للنظر إلى الواقع والتعامل معه.

هكذا تبدو اللغة، ومنها العربية بالطبع، محددا رئيسيا لا يمكن تجاهله في العلم والسياسة وغيرهما، ولا يجب أن نقتصر في نظرتنا إليها على أنها مجرد وسيلة للتعبير عن الأفكار والمواقف، إذ إنها في حد ذاتها موقف وفكرة، لا يمكن نكرانها.

وأعتقد أن الجزيري واحد ممن يؤمنون بهذا المسار، فهو إلى جانب قدرته على توظيف اللغة العربية في التعبير عن آرائه بيسر وسلاسة، فإنه يتجاوز الوقوف عند هذا الحد، إلى التعامل مع اللغة بعمومها، أي لغة، على أنها نسق أو منهج أو حتى أداة للفهم والتفسير والإحاطة.

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

نحو فهم أشمل للغة وفلسفتها

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري