مقالاتقضايا شبابية - مقالات

السارق الأشطر هو من يدفع أكثر! بالتأكيد ستكون اللعبة لطيفة

جذبني في يوم ما رابط لعبة إليكترونية، لم يستغرق تحميلها وتثبيتها الكثير من الوقت، وسرعان ما بدأَت اللعبة.

كما هو معتاد في الألعاب فإنه في البداية يقوم مرافق طريف بتعليمك أساسيات اللعبة حتى لا يكون منحنى التعلّم مزعجًا بطيئًا، فتشعر بتأقلمك وإجادتك لها في أقل وقت ممكن. المهمة مثيرة وواضحة؛ عليك أن تتخطى دفاعات الخصوم وتقوم بسرقة أموالهم وإذا حالفك الحظ ولعبت باحترافية فقد تسرق جواهرهم أيضا، أنت بدورك عليك أن تهيئ دفاعاتك حتى يصعب على الخصم قدر الإمكان تخطيها والقيام بسرقتك وزيادة ثروتهم على حسابك. بالطبع كانت هناك وسائل لإنفاق هذه الثروة حتى تحفزك للبحث عنها، وهناك أيضا سباق على لقب ملك اللصوص وجوائز تصاعدية.

طبعا اللعبة مع كونها مجانية فإن مطوريها قطعا لم يقوموا بصناعتها “لوجه الله”! النموذج الأشهر والأنجح من الألعاب –والأعمال عموما- هذه الأيام يقوم على إتاحة مساحة للمستخدمين ليجربوا اللعبة ويشتبكوا مع أحداثها ومهامها وتحدياتها، مع إيجاد إمكانية للتواصل بين المستخدمين والتنافس الفردي والجماعي (مجموعة مقابل مجموعة). كل هذا يجعل المستخدم يرى مستهدفات وإنجازات ومغامرات ممتعة يمكن أن يقوم بها من خلال اللعبة، ولوجود جو تنافسي مع كافة عوامل الجذب والإبهار التي تتمتع بها اللعبة يجد بعض المستخدمين أن دفع مبلغ بسيط مقابل ميزة يمكن أن يحصلها من خلال ساعات طوال من اللعب والكد، في وسط جاء فيه في الأصل ليستمتع، هو أمر مقبول بل ومنطقي جدا. هذا بالطبع سهل خاصة لقاطني الدول المتقدمة اقتصاديا حيث قد يكون الثمن الذي يدفعه موازيا لثمن وجبة أو أحيانا أقل مما يدفع لقاء مشروب غازيّ.

اللعبة تكون بسيطة وسريعة التقدم وخفيفة في البداية، أنت فقط تلعب للتغيير وشغل ذهنك عن الهموم والضغوطات والمشكلات، تنجح في تخطي دفاعات هذا وتشعر بالتفوق العقلي على الخصم وتكون الجائزة أو الخسارة في حالة تعرضك للهجوم بسيطة، لكنك ما تلبث أن تخرج خارج منطقة اللاعبين الصغار حيث تجد لاعبين أكبر وأشرس، حيث تكون التحديات كذلك أصعب والجوائز أكبر. كل هذا بالطبع يزيد من استعداد المستخدم للإنفاق على التحصّل على المزايا في فقاعة الواقع الافتراضي هذه. تبدأ في تلقي الهزائم الموجعة، وتخسر أشياء ثمينة، لكن لا بأس، فأنت أيضا يمكنك سرقة آخرين أقل انتباها ونباهة وقدرة على التخطيط، يمكنك بضربة حظ أن تعوّض خسائرك بل وتبدأ تحصين نفسك وانتهاز الفرص لصعود سلم النجاح!

مع الوقت أيضا تصبح اللعبة اجتماعية الطابع جزءا من حياتك اليومية، وما أنفقته على هذه اللعبة من وقت وربما مال وحققته من إنجازات وعقدته من صداقات يقف بينك وبين تركها كليّة لسبب أو لآخر. تهانينا! أنت الآن صرت موظفا بلا مرتب عند آلة جمع المال هذه. أنت الشخص الذي يراه هؤلاء الذين يدفعون أموالا يتقدم ببطء مؤسف ويؤدي بصورة ضعيفة في المسابقات متعددة المراحل التي تعقد من فترة لأخرى، فينتابهم شعور بالرضا عن النفس. حتى هؤلاء الدافعون الذين يحصلون على معاملة تفضيلية لمجردّ أنهم دفعوا بعضا من المال، يتفاضلون فيما بينهم بمقدار ما يدفعون. لم يعد الأمر ثمن وجبة طعام، بل صرنا نتكلم عن المال الذي يفيض عن احتياجات الإنسان العامل، الميزانية المخصصة للترفيه بأكملها في وسط استقر في وجدانه أن السعادة تأتي من الإنفاق والاستهلاك واللهو.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

“لم لا” قال لي أحدهم عندما سألته. “هي لعبة ممتعة تبقيني منشغلا بالخطوة التالية وبتطوير نفسي وتحسين موقعي، الخطوات واضحة، الطرق مفتوحة. لماذا أشرب كوب قهوة رديء الجودة بينما بإمكاني أن أدفع أكثر وأحصل على كوب قهوة ذي رائحة نفاذة وطعم متميز؟ هي حياتي وهو مالي، فلماذا لا أستخدم مالي فيما وجد من أجله؛ إسعادي وتسهيل الأمور علي، وأعيش حياتي لأقصى ما بإمكاني؟”. طبعا تمتلك الألعاب الإليكترونية جاذبية إضافية مهمة: أنت قد تخوض حربا شرسة بتقنيات متطورة، مع فريق عكف لفترة طويلة على التدرب ودراسة الكيفية المثلى لتحقيق الفوز، أو قد تلعب رياضة مرهقة وتقوم بأعمال لا يقدر عليها أعظم البشر كفاءة ولياقة: كل هذا وأنت جالس في راحة منزلك، على كرسيك المريح تتنفس الهواء المكيّف وتتذمر من الجلبة –الشوشرة- التي يحدثها مرور السيارات في الشارع القريب منك والتي تعكر صفو يومك وتفقدك التركيز في المهمة المصيرية التي تقوم بها.

لقد سوق لنا الإعلام وبخاصة أفلام السينما الأمريكية كون فعل الأشياء القبيحة مثيرا وممتعا. القتل، والقرصنة، والسطو على الآخرين، والتلفظ بالبذاءات والكلام والتعامل بأسلوب المنحلين أخلاقيا ومعتادي الإجرام… والقائمة تطول. في أي سياق طبيعي كان يمكن اعتبار هذه الأشياء مثيرة؟ السياق الخيالي الذي لا يحتكم فيه شيء للطبيعة “النمطية” والقيود الموجودة في حياتنا، إلا بالقدر الذي يشعر المستخدم بأن ما يعرض عليه متسق مع نفسه وقابل للتصديق، ومن منا لا يحب أن يتجاوز “القيود الظالمة” والأحكام الجائرة والحرمان التي يجدها في مجتمعه، ويدخل إلى عالم آخر تحلق فيه روحه فقط، وتلتحق بما شاءت من الموجودات الأسطورية لتعيش دور البطولة والشعور بالتقدير والإشباع، عالم يتسم بقدر أكبر من الوضوح والإثارة وقدر أقل من المخاطرة.

بالطبع ليست كل القيود ظالمة، هناك قيود عادلة وضرورية، لكن هذا لا يوجد في ميزان صناع السينما والصناعات الترفيهية هؤلاء. ما يوجد في ميزانهم هو الربح من خلال تقديم محتوى له جمهور مستعد لدفع المال، واحترام القوانين والقيود التي تضعها الدول عليهم حتى لا يقعوا تحت طائلة القانون. هم كما قال إديسون عن نفسه: “إذا كان الاختراع غير مربح فلا أودّ أن أخترعه، فالبيع الرابح هو دليل النجاح والإفادة”. لا تسأل إذن على الأخلاق إلا إذا كنت تنوي أن تعوض الصانع عن فارق الربح!

إذا كان وجود هذه المنظومات الفكرية والسلوكية الفاسدة محصورا على هذا العالم الافتراضي لكانت المشكلة ربما أهون. لقد انتقلت العدوى بنجاح عبر سنين من الإفساد إلى المجتمع. وبالطبع فالمسؤولية لا تعود على قطاع الترفيه أو الإعلام فحسب؛ لكننا نرى من يأخذون سلوكياتهم وألفاظهم بل وأفكارهم ومعتقداتهم من هذا المحتوى الترفيهي الخيالي! لا يستطيعون –أن يفصلوا بين العلم والخيال العلمي، بين الحقائق والنظريات والعلوم الزائفة، إذ أن مساحة الفهم في عقولهم تخلو من معايير واضحة ثابتة للتعامل مع المتغيرات والمستجدات، التي يضع المربّون والمعلمون التقليديون بدلا منها مجموعة من المحفوظات، سرعان ما تصبح مصدرا للتشوّش بدلا من كونها مصدرا للثقة والثبات.

يجب أن نشير إلى أنّ الترفيه هو ليس الدافع الوحيد الذي يدفع اللاعبين على الاستمرار في اللعب. لقد أصبح العالم الافتراضي هذا مهربا مثاليّا للكثير ممن لا يشعرون بالانتماء والانسجام مع مجتمعهم وممن يودون التحرر من هوياتهم في الحياة الحقيقية لأي سبب. فقد خلص بحث عن الإدمان إلى أن حقيقة الإدمان ليست مادية وأن الكائن المنسجم مع مجتمعه والذي يشعر بالسعادة فيه تقل عنده القابلية للإدمان بشكل كبير، فالإنسان يحتاج لأن يقيم روابط مع مسببات للسعادة والارتياح، إن لم يجدها في الطرق الطبيعية فإن نفسه ستبحث عنها في غيرها: في الخيال وفي الاستهلاك… إلخ.

لا! التخلّص من كافة قيود الواقع أمر غير مقبول وشديد الخطورة. فما يمتلئ به الخيال سرعان ما يطفو إلى أرض الواقع، وهو ما أثبتته التجربة مرارًا وتكرارًا. يصبح القتل فنا والانتقام شجاعة وتصير السرقة من الظالم عملا مشروعا، ونجد من يتكلمون في أمور شديدة الخطورة باستهتار وانعدام وعي مثل القيام بالحروب أو نسف المعتقدات أو هدم الأسر!

لا! ليس هذا الغرض من وجود المال. غرض وجوده هو إنفاقه على ما يسعد النفس، وسعادة النفس في تزكيتها بالعطاء، في كبح تفشي الفقر والجهل والمرض، في أن يحيا الإنسان حياة ذات معنى ويكون لوجوده بصمة إيجابية. الإنسان المؤثر القيّم -كما يقول الفيلسوف سقراط- هو من يستهلك فقط ليعيش لا من يعيش فقط ليستهلك، وأضيف: هو من يعيش فقط ليُصلح، لا من يُصلح فقط ليعيش.

ولو أمعنا النظر أكثر في هذه الألعاب والصناعات الترفيهية وأسباب نجاح كل منها ونوع الجمهور المنجذب لها لوجدنا الكثير من الدروس ذات الدلالة في مجالات متعددة كالاقتصاد والاجتماع والتربية وغيرها، وأدركنا المقدار الذي انحرفت به الإنسانية عن السواء، ومدى المجهود الاحترافي عالي التقنية المبذول في خلق واقع افتراضي بديل -مدر للربح- بدلا من صرف هذه الطاقة على إصلاح المشاكل الحقيقية، عندها يتأكد لدينا أن الحل الوحيد لهذا الوضع هو التوقف عن الهروب للراحة العاجلة وتحمّل مسؤولية إصلاح الواقع

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

.

ياسر حسام عطا

مهندس كهرباء

مترجم حر

كاتب ومصحح لغوي

باحث في مشروعنا بالعقل نبدأ بالقاهرة