مقالات

كائنات مُفرطة (Hyperobjects)! .. الجزء الأول

شيءٌ ما يحدث بالفعل، لكننا لا نعرف ما هو، عاجزون عن استكناه حقيقته ودلالات مظاهره وتأثيراته، بل قد يحتدم الجدل حوله ويتطرق الشك إلى وجوده أصلًا رغم إعلانه المُتكرر والمُرعب عن هذا الوجود! هل ثمة احتباس حراري (Global Warming) يُهدد الأرض حقًا؟ نعم، بالتأكيد، تلك هي الإجابة التي يُجمع عليها أغلب علماء البيئة، لكن صوتًا مُتشككًا قد يُردده أحدهم في ثقة تُثير الدهشة: أين هو بالضبط؟ أرني هذا الشيء الذي تدعوه احتباسًا حراريًا! قد تُشير بدورك إلى ارتفاع درجات الحرارة، وتغير أنماط هطول الأمطار، والأعاصير المدارية، وذوبان الجليد، وارتفاع مستويات البحار والمحيطات، واختلال التنوع الحيوي، إلخ، لكن صديقك المتُشكك قد تأخذه العزة بالجهل واللا مبالاة، فيسألك ساخرًا: ماذا إذًا عن علماء المُناخ الذين علُقت سفينتهم وسط جليد القارة القطبية الجنوبية؟!

هذا اللغز طرحه فيلسوف البيئة الأمريكي “تيموثي بلوكسام مورتون” (Timothy Bloxam Morton من مواليد لندن: 19 يونيو 1968)، أستاذ كرسي ريتا شيا غوفي (Rita Shea Guffey) للغة الإنجليزية في جامعة رايس (Rice University) بالولايات المتحدة الأمريكية، في كتابه المنشور سنة 2013 تحت عنوان “كائنات مُفرطة: الفلسفة وعلم البيئة بعد نهاية العالم” (Hyperobjects: Philosophy and Ecology after the End of the World)، مُحاولًا رسم الخرائط المعرفية (العلمية، والدينية، والثقافية، والفلسفية، والجمالية) لما أطلق عليه اسم “الكائنات المُفرطة”، تلك التي تتسم بكونها ذات أبعاد مكانية – زمانية شاسعة، تتجاوز محليتنا الزمكانية، وتهزم أفكارنا التقليدية حول ماهية الشيء، وتُواجهنا بمشكلات يبدو أنها لا تتحدى فقط سيطرتنا، بل تتحدى أيضًا عاداتنا العلمية والفلسفية في التفكير، وتضع أنساقنا السياسية والأخلاقية والفنية موضع الاختبار. ولئن كان الاحتباس الحراري بمثابة المثال الأكثر دراماتيكية لهذه الكائنات، إلا أن دائرتها تتسع لتشمل الثقوب السوداء، والنظام الشمسي، والستايروفوم (Styrofoam)، والبلوتونيوم (Plutonium)، والنفط، والرأسمالية، والعرقية، والإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، والفساد، وحتى اللغة!

قد نعتقد، في هذه المرحلة الفارقة من الصدمات المناخية والفكرية والاجتماعية العميقة، أن العالم يقترب من نهايته، لكن لـ”تيموثي مورتون” رأيًا آخر: لقد انتهى العالم بالفعل، ليس لأن يوم القيامة قد حلَّ، لكن لأن ما نُسميه “العالم” (المكان الذي يعمره البشر، ويتحدد بما يمكننا رؤيته وما نشعر به) أصبح ببساطة أصغر وأضعف من أن يتكيف مع الواقع بعد الآن، ففي مواجهة القوى الهائلة التي تتحدى تأثيراتها تصوراتنا الحسية، من الاحترار العالمي ووقائع الانقراض إلى جائحة كوفيد–19، تسقط فكرتنا عن العالم، تمامًا كبناءٍ ينهار من الخارج بعد أن تآكل من الداخل بفعل ممارسات البشر، أو فلنقل إن مفاهيم مثل “العالم” و”الطبيعة” وحتى “البيئة” لم تعد موجودة، وبدلًا من أن نسكن عالمًا نعرفه، أو حتى نسعى إلى معرفته، نجد أنفسنا داخل عدد من الكائنات المفرطة، مثل المناخ أو الأسلحة النووية أو التطور أو النسبية. ولكي نبدأ في فهم الواقع الذي نعيشه، علينا اختراع طُرق جديدة للتفكير، وعلينا أن نُحدد نهجًا بيئيًا ما بعد حداثي بالفعل للفكر والعمل، مدعومًا بكافة القوى الأخلاقية والجمالية المتعلقة بالبيئة، وما وصفُنا للكائنات المُفرطة سوى الخطوة الأولى في هذا الصدد.

عندما صكَّ مورتون مصطلح “الكائنات المُفرطة” (Hyperobjects) في كتابه “التفكير البيئي” (The Ecological Thought) المنشور سنة 2010، كان يهدف إلى نشر رسالةٍ مؤداها أن البشرية قد دخلت مرحلةً بيئية جديدة. وما تغير في هذه المرحلة هو علاقتنا مع غير البشر: لقد أدركنا للمرة الأولى أن الكائنات “غير البشرية” كانت وما زالت مسؤولة عن اللحظة التالية من تاريخ البشرية وتفكيرها، وليست هذه الكائنات مجرد أجهزة حاسوب أو حتى كائنات فضائية، لكنها في الحقيقة مجموعة نوعية من الكائنات الموزعة على نطاقٍ واسعٍ في الزمان والمكان: كل المواد النووية الموجودة على الأرض، أو كل المواد البلاستيكية الموجودة في البحر، أو كل الكربون الموجود في الغلاف الجوي، وباختصار، كل ما خلَّفه النشاط البشري الذي أفضى بنا إلى عصر الأنثروبوسين (Anthropocene حقبة التأثير البشري، أو العصر الجيولوجي البشري، أو العصر الحالي للتغير الكوكبي بفعل الإنسان.

لم يكن المصطلح ذاته مستوحى من علوم الحاسوب (إذ يشير الآن إلى كائنات أو خوارزميات ذات معايير وحالات وتأثيرات متعددة الأبعاد على مدى فترات زمنية طويلة، بحيث يصعب على شخصٍ واحد تقييم نتائجها بدقة أو التنبؤ بها)، وإنما من مصدر أكثر شعبية: أغنية “هايبر بالاد” (Hyperballad) التي كتبتها ولحنتها وقامت بأدائها سنة 1996 الفنانة الآيسلندية “بيورك غوموندسدوتير” (Björk Guðmundsdóttir من مواليد سنة 1965)، والتي تحمل دلالات رمزية لأجزاء من الذات يتخلى عنها المرء طواعيةً بُغية الحفاظ على التوازن العاطفي، وإعادة إيقاظ الخطر المتدفق للحياة في سياق علاقة طويلة الأمد، وهو ما عبَّر عنه مورتون في إحدى رسائله الإلكترونية لـ”بيورك” بقوله: “لقد احتفظت بموسيقاك وكلماتك بداخلي منذ عقود، لديك كثرةً من الكائنات غير البشرية في عملك”. أما في كتابه “كائنات مُفرطة: الفلسفة وعلم البيئة بعد نهاية العالم”، فيعمد مورتون إلى تبديد غموض المصطلح، وكشف ما يتسم به من جاذبية، وتوضيح مدى تأثر البشر كافة بالكائنات المُفرطة، حتى ولو سعوا جاهدين إلى إنكار وجودها. فما الكائنات المُفرطة، وما خصائصها؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تأمل قدح القهوة الذي قد تحتسيه في أثناء قراءة هذا المقال، بإمكانك في لحظة معرفة ما إذا كان القدح باردًا أو ساخنًا، كبيرًا أو صغيرًا، مكسورًا أو سليمًا، وبإمكانك فهم جميع حالات القدح ومعايير وجوده وإصدار الأحكام التي تتعلق به، وعلى الرغم من أن القدح يمكن أن يظل موجودًا لفترة طويلة، فإنه بسيطٌ بما يكفي لأن تتمكن من استيعاب المفهوم بأكمله، وإجراء نوع من التنبؤات حوله. أما الكائنات المفرطة فشأنها مختلف، إذ هي مترامية التوزيع المكاني – الزماني، ومن ثم لا يمكنك فهمها أو الإلمام بكينونتها بملاحظة مظاهرها الجزئية فقط، ولا يعني ذلك أنها في جملتها كائنات مجردة مفارقة، بل موجودة بالفعل في عالمنا، لكنها تتجاوزنا، قد لا نستطيع رؤيتها أو لمسها، لكننا نعلم أنها موجودة، ونعلم أننا جزءٌ منها، ويجب أن نهتم بها، وقد لا نستطيع تجربة الواحد منها ككائن كُلي في حد ذاته، لكنها تصطدم بنا ونصطدم بها، تُزعجنا بآثارها وتضرب عقولنا بواقعيتها، ومع ذلك فهي ضخمة ومُعقدة بحيث لا يُمكننا أبدًا فهم ما يُزعجنا، ولا يُمكننا أبدًا حل مفارقة هذا التذبذب بين التجربة وعدم التجربة، أو بين الطبيعة وغير الطبيعة!

خذ مثلًا الستايروفوم (أو رغوة البوليسترين عديمة المسام، وهي مادة اصطناعية مصنوعة من النفط الخام، وتستخدم ألواحًا عازلة للجدران والأسقف والحوائط)، بإمكاننا أن نعرف أية قطعة من الستايروفوم فور رؤيتها ولمسها: أنها بيضاء، إسفنجية، خفيفة، ومع ذلك يُنتَج أربعة عشر مليون طن من الستايروفوم كل سنة، وتتحلل أجزاء منه إلى جزيئات تلج في أشياء أخرى، بما في ذلك الحيوانات. وعلى الرغم من وجود الستايروفوم في كل مكان، لا يمكن للمرء أبدًا الإشارة إلى كل مادة الستايروفوم الموجودة في العالم ويقول “ها هو الستايروفروم”، فمهما كان جزء الستايروفوم الذي قد تتفاعل معه في أية لحظة، فهو محض “مظهر محلي” لكائنٍ أكبر (مُفرط) موجود في أماكن أخرى، وقد وُجد على هذا الكوكب منذ آلاف السنين، وسيظل متواجدًا بعد وفاتك! خُذ أيضًا النفط، نعرف جميعًا أنه محض ترسبات سوداء في أعماق الأرض، ومع ذلك فهو يؤثر في أدق تفاصيل حياتنا: باعث ثورتنا الصناعية، وقود سياراتنا وآلاتنا ومُولداتنا الكهربائية، تنشب من أجله الحروب، تُثار النزاعات، تُرسم حدود الأوطان، به ومعه تستقر أو تتزعزع نُظمنا السياسية والاقتصادية، يزداد تلوث البيئة، يتغير المُناخ، بارتفاع أسعار مُنتجاته محليًا ترتفع أسعار كل شيء، بما في ذلك السلع الغذائية، ومن ثم فهو كائنٌ مُفرط، يصعب الاقتصار في تعريفه على أنه تلك المادة السوداء التي نستخرجها من أعماق الأرض! وعلى المنوال ذاته نستطيع أن نُدرج الإنترنت أو اللغة أو الفساد أو الجهل، هل قابلت أحدهم يومًا؟ الإجابة بالطبع النفي، ومع ذلك فأنت أمام كائنات مُفرطة، تُشكل دقائق حياتنا، وأنماط تواصنا، ومستوياتنا الحضارية، ونُظمنا العلمية والفلسفية والدينية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها، ولا يمكن أن تقتصر تعريفاتها على تلك الجمل والعبارات التي تحتويها قواميسنا!

بعبارة أخرى، نستطيع القول أننا لا نملك حاليًا سُرعة الهروب المعرفية، بالعلم أو الفلسفة التقليدية، من الكثافة الوجودية للكائنات المُفرطة، فلا تسمح لنا معرفتنا بتقسيمها بشكل عقلاني، ولا يستطيع العلم أن يُقدم دليلًا مطلقًا على فهم روابطها السببية. بإمكاننا أن نتفلسف بشكلٍ أكثر بساطة حول وجود أشياء مثل ثمرة البرتقال أو قدح القهوة، لكن الكائنات المُفرطة تتجلى كعوامل مخيفة لتغيير قواعد اللعبة، وهي تظهر في عالمنا كنواتج للتفكير البشري من الأزمة البيئية التي ولَّدتها ممارسات البشر (بالمعنى الواسع لكلمة بيئة)، والأزمة البيئية بهذا المعنى هي ذلك البُعد الزمكاني الذي يقوم فيه عددٌ هائل من الكائنات غير البشرية بإجراء اتصال حاسم مع البشر، وهو ما يؤدي في النهاية إلى إنهاء مفاهيم بشرية مختلفة مثل العالم أو الأفق أو الطبيعة أو حتى البيئة!

يتبع…

مقالات ذات صلة:

الناتج المحلي الإجمالي والمستقبل الأخضر

هل نثق في العلم؟ كيف؟ ولماذا؟!

ديناميكية التغيرات المناخية المعاصرة وتداعياتها السلبية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية