مقالات

القيم الخُلُقية وصناعة المعرفة العلمية .. الجزء الثاني

بين علم الرحمة وعلم القوة

“العلم” وفقًا لمقتضيات المعرفة الإسلامية “مبدأ العملِ”، و”العملُ” من تمامه، بعبارة أوضح: “مفهوم العلم” في ديننا ليس “عقليًا صرفًا”، لكنه “خبرة” تجمع ما بين “العلم النظري” و”العمل التطبيقي” فتشمل بذلك “قوى الإنسان كلها”، ولذا كان الإيغال في “النظر” دون مردودية تعود على “العمل”، غيرَ مقدّرٍ في معارفنا، بل كان محلَّ استعاذة من نبينا صلى الله عليه وسلم: “وأعوذ بك من علمٍ لا ينفع”.

هذا ما فهمه علماؤنا وقرّروه بوضوح تام، قال الشاطبي: “كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي”، “الموافقات”، ويقول ابن خلدون: إن العلم “المجرد عن الاتصاف والتحقيق، قليل الجدوى والنفع، وهذا علم أكثر النظار، وإنما المطلوب هو العلم الحالي الناشئ عن العادة”، “المقدمة”، قال د. علي عبد الواحد وافي مُحقِّق المقدمة، موضّحًا، مفهوم “العلم الحالي” عند ابن خلدون في كلامه السابق: هو “العلم المنبعث من حال أو المصحوب بحال، أي: بصفة وعادة قائمة بالشخص”.

إن ارتباط العلم بالعمل يجعل العلم بريئًا من آفات النفس الإنسانية التي تُمارس العلم وتُعمل فيه عقلَها، تلك الآفات التي تجعل العلمَ –في ظاهره– مظهرَ قوةٍ، إلا أنه –في مآلاته وحقيقته– خالٍ من الرحمة، فننتهي إلى “علم قوة” يُبهرج ويخدع، لكنه لا يخدم ويُغيّر، ونبتعد عن “علم الرحمة” الذي ينفع ويُصلح في تواضع وأدب.

إن ما يجعلني أقول: إن “العلم” في منظومتنا المعرفية “علم رحمة” وليس محض “علم قوة”، أنني لم أجد “العلم” و”الرحمة” يجتمعان في قرآن ربنا إلا وقد تقدمت “الرحمة”، قال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾، وقال تعالى: ﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾، إشارةً –والله أعلى وأعلم– إلى أن العلم عندنا مؤسس على الرحمة، فهي التي تصبغه وتدير منظومته، فـ”علم” دون “رحمة” هو “جسد” بلا “روح”.

أخلص من ذلك إلى أن ارتباط “العلم” بـ”العمل” عندنا جعل “الممارسة العلمية” تأتي “رحيمة” قبل أن تكون “عليمة” أو “قوية”، ومن ثم جاءت تلك الممارسة العلمية الرحيمة محصنةً من عيوب خفية وخطيرة تتهدد مسيرة العملية العلمية، وتنحرف بها عن غايتها المنشودة، وهي الوصول إلى الله بالعلم والعمل، ومن ثم تؤثر على واقعنا بإثارة النزاعات النظرية التي لا تعود على الواقع بالنفع، وتُفضي بنا إلى استهلاك القوى فيما لا طائل من ورائه سوى التشتت والضياع، وسوف أسرد هذه الآفات موضّحًا إياها في الكلمة القادمة، تحت عنوان “ممارسات علمية غير رحيمة”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

لحظة الكشف العلمي من الخيال إلى الواقع

بين منطق العمل ومنطوق العبارة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د . أحمد عزت عيسى

مدرس بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، قسم النحو والصرف والعروض