مقالات

القيم الخُلُقية وصناعة المعرفة العلمية .. الجزء الثالث

"ممارسة الرحمة" أصعب من "ممارسة العلم"

قبلَ أنْ أفصّلَ القولَ في تلك الممارسات العلمية غير الرحيمة، أودُّ فقط أنْ ألفتَ الانتباهَ إلى أمرينِ:

الأول: الفرْقُ بين “ممارسة العلم” و”ممارسة الرحمة”، وقصدي بذلك أنْ أُوضّحَ أيّهما أثقلُ على النفس، ومن ثَمَّ أيّهما أولى بالرعاية والاهتمام.

الثاني: أصالةُ الرحمة عند المولى عز وجل، وقصدي بذلك أنْ أدعمَ ضرورةَ تخلُّقنا بالرحمة كاشفًا أصالتَها عند المولى خَلْقًا للكون ومُعاملةً لمخلوقاته سبحانه.

أولًا: ممارسةُ الرحمةِ أصعبُ من ممارسةِ العلم

إنّ “ممارسة العلم” بما تكفلُه لصاحبها من بروزٍ وتميزٍ، تُعدُّ سباحةً في اتجاه تيار النفس الإنسانية، بمعنى أنها تتوافق مع حظ النفس في حب الظهور والبروز، لذا فهي موقوفة على خطرِ أن تكون ممارسةً نفسيةً أكثر منها ممارسةً خُلُقيّةً، شأنُها في ذلك شأنُ “صدقة العلانية”، و”الجهاد” اللذينِ قد يكونانِ رياءً وسمعةً.

إنّ الجامع المشترك بين هذه الأعمال الثلاثة –إنْ تأملنا–أنها أعمالٌ ظاهرُها النفع المتعدي للغير، وباطنها وحقيقتها أنّها لحظ النفس فقط، لذا كان أصحابُها أوّلَ من تُسعّر بهم النارُ يومَ القيامة، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن أهل النار كان تجاوزُهم في حق أنفسهم تارة وبعضهم تارة أخرى، أما هؤلاء فقد تجاوزوا ذلك إلى حق الله فاتخذوا من طاعاتِه غطاءً لشرور النفس وأهوائها، فاستحقوا العقاب قبل الآخرين، نظرًا لعظم الجرم جزاءً وفاقًا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أما “ممارسة الرحمة” فإنها بما تقتضيه: من بذلٍ وخروجٍ من أسر الذات الإنسانية، فكرًا وعملًا، تُعدُّ سباحةً عكسَ تيار النفس الإنسانية، تلك النفسُ التي جُبلت على الانتصار للذات، وعدم المسامحة، والشُّح، والتمسك بمألوف العادة والعمل والفكر دونَ تدبُّرٍ للأمور، أو تقليب لها على مختلف الوجوه، أو تمام تدبير لأوائلها، وحسن تقدير لعواقبها، ولذا لا تجدُ رحيمًا مفسدًا برحمته أبدًا، في حين أنك قد تجد عالمًا مفسدًا بعلمه بقصد أو بغير قصد.

ثانيًا: أصالة الرحمة عند المولى عز وجل

إن أصالة الرحمة في معاملة الخلق لبعضهم من جهة وممارستهم لأعمالهم من جهة أخرى، لهي أمرٌ يتعلمُه المرءُ من أصالة الصفة نفسها عند المولى عز وجل في كتابه، وبيان ذلك يتضح بتأمل كتابه سبحانه، على النحو الآتي:

  1. فاتحةُ الكتاب التي هي أُمُّ الكتاب المهيمن، قد ترددت فيها هذه الصفةُ بتردد اسمي الرحمن الرحيم، في الآية الأولى: البسملة، مرتين: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، وكذلك في الآية الثالثة ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، دلالةً على أصالة هذه الصفة في كتاب الله.
  2. باسم “الرحمن” استوى المولى على عرشه الذي هو سقفُ المخلوقات، فلم يُذكر اسمٌ لله مع الاستواء على العرش في كتاب الله سوى اسمِ الرحمن دلالةً على أنّه الاسمُ الذي به تُدارُ المملكةُ.
  3. بل إنّ المتدبِّرَ لكتابِ الله يجد لاسمِ “الرحمن” مكانةً كبيرةً، فاسمُ “الرحمن” يقتضي ويجمعُ غيرَه من الأسماء سوى اسمِ “الله”، كما أنّ اسمَ “الله” يقتضي الأسماءَ كلَّها، لكنّ الفرقَ بينهما دقيقٌ، بيّنه بعضُ العلماء إذ قال: “الله” غيبٌ مطلق، يتعلق الإنسانُ به، لكنّه يظلُ غيبًا، أما “الرحمنُ” فغيبٌ يتفاوتُ الناسُ في وعيه، كلٌ يُدركُ منه وفق مطالعته لتجلياته في الكون، فأنت إذا ما ناديتَ “الله” فإنما تُنادي منه سبحانه ما تطالعُه من تجليات اسم “الرحمن”، ولذا قال المولى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ﴾، انظر كتاب الجلال والكمال، لابن العربي، مجموع رسائله، ص 37.

إنّ الذي يؤكد أنّ اسم “الرحمن” منْبعُ الفيوضاتِ الإلهية على المملكة الكونية سواء أكانت سماويةً أم كانت إنسانيةً، هو المولى تعالى في كتابه في سورة الفرقان إذ قال تعالى: “﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَٰنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا﴾ الفرقان، فتولَّى المولى عز وجل بيانَ اسم “الرحمن”، بالحديث عن تجلياته التي ستتوزعُ على كونينِ بناء على عرْضِ الآيات التالية للآية السابقة على النحو الآتي:

الكون الأول: هو الكون الكبير، ألا وهو السماوات، إذ قال تعالى بعد الآية السابقة الذكر: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)﴾ الفرقان.

والكون الثاني: هو الكون الصغير، ألا وهو الإنسان، إذ قال تعالى: ﴿وعباد الرحمن الذين… ﴾.

القصدُ أنّ رحمةَ الله أساسُ الخلقِ تكوينًا ومُعاملةً، وعلينا أنْ نتحققَ بها في مُمارستنا العلمية وغيرِ العلمية كلِّها إذا ما أردْنا لهذه الممارسات أنْ تنالَ توفيقَ الله الذي أجراها علينا وإلّا فنحن موقوفون على “وهمٍ” كبيرٍ نُسميه: علمًا تارة أو تدينًا أخرى، أو شيئًا ثالثًا مما يُعجبُك بريقُه إلا أنّك إذا امتحنتَه وجدْتَه كسرابٍ بِقِيْعَةٍ يحسبُه الظمآنُ ماءً.

ولا نجاةَ للإنسانِ من ذلك كلِّه إلا بالعملِ المُفضي بصاحبِه إلى التّحقُّق بصفة الرّحمة.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

معايير التراحم في عالم القسوة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د . أحمد عزت عيسى

مدرس بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، قسم النحو والصرف والعروض