القيمة الحضارية للثقافة المجتمعية
عند محاولة سبر غور التفوق الغربي والوقوف على أسبابه سوف نقابل الكثير والكثير من الأسرار والأسباب التي أخذ بها الغرب وتغافل عنها الشرق عامة، والعرب خاصة ولم يأخذوا بها.
وفي شأن الثقافة، نجد أن هذا المصطلح “الثقافة” يحظى بالعديد والعديد من التعريفات ويعد بالكثير من المفاهيم، والتي لا تزال، رغم كثرتها، تقبل المزيد والإضافات، ومن ثم فنكتفى بالإشارة إلى أن الثقافة غير الحضارة غير التاريخ غير التعليم، وأن ما يعنينا هنا، كما يعني للقارئ، هو أن الثقافة في أبسط معانيها وتعريفاتها هي ما يميز شعبا عن آخر من سمات؛ من حيث عاداته وتقاليده في مأكله ومشربه ومسكنه.
وتمنح الثقافة أصحابها والمتمسكين بها من الأمم والشعوب مكانًا عاليًا بين الناظرين والطائفين والمُطالعين والزائرين، وبهذا الحفاظ والتمسك بالثقافات تحصل الشعوب على الخلود الدائم بين الأمم.
روما والجمع بين الحديث والقديم
ويفخر الرومان المُحدثون بشدة بتراثهم، ويحترمون بقوة ثقافتهم التي ورثوها منذ القدم، منذ حضارتهم القديمة، ويحتفي الرومان أيما احتفاء بكل قادم إليهم لزيارة معالمهم التاريخية الأثرية والوقوف على ثقافتهم الخاصة، خاصة هؤلاء الذين يحاولون السير على خطى الرومان وتقليدهم، والعمل بمقولة: “عندما تكون في روما، فلتفعل كما يفعل الرومان!”، تلك المقولة التي تعود إلى عام 387م، والتي عكست صلابة الرومان المتدينين الأرثوذكس الذين لم يكونوا حريصين جدًا على المرونة مع طقوسهم.
لقد حافظ الرومان على ثقافتهم ودليل تميزهم، تلك الثقافة التي تنبع من بنيتها الاجتماعية القوية المتمركزة حول الأسرة، والتي توفِّر دعمًا قويًا لجميع أعضائها، ويعرف كل فرد فيها واجباته نحو الآخرين، وضرورة الحفاظ على تقاليدهم الموروثة والغنية بالدين والطعام والفنون والأزياء والعمارة، السياسية والدينية والاقتصادية.
ورغم هذا الاحتفاء الجلي بالثقافة والحضارة الرومانية القديمة، إلا أنهم كانوا حريصين على المزج بين القديم والمعاصر، والأخذ بأسباب المدنية والتطوير، ولذلك نجدهم يضعون في كل جزء من المدينة التماثيل والهياكل الحديثة الشاهقة جنبًا إلى جنب مع التماثيل والهياكل الرائعة التي نحتها وبناها النحاتون والمهندسون المعماريون المشهورون القدماء.
فروما اليوم مدينة حديثة تزدهر بثقافتها العالمية الحديثة، ولكنها لا تزال تحظى بتبجيل عميق لماضيها، وهذا هو سبب خلودها، فلم تحاول تحديث ذاتها على حساب ماضيها أو محوه، ولكنها أبقت عليه واحتفظت به وعملت على تقديمه لزائريها جنبا إلى جنب مع ما أحدثته من قفزة وتطور حضاري. وعلى هذا النحو عن طريق الجمع بين الثقافة والتقاليد القديمة والحديثة استطاعت روما أن تظل مدينة خالدة “eternal city” بين جميع المدن والشعوب.
ضرورة التمسك بالتراث والثقافة
وإزاء التفوق الغربي، حاولت بعض الشعوب الشرقية، والعرب منهم، الأخذ بأسباب تطور الغرب وتفوقه، فرأوا في السير على دربه والنقل عنه خلاصًا لتخلفهم وانتقالهم للحضارة والتمدين، ولكن لم يفطن هؤلاء المقلدون، الذين رأوا في نسيان ماضيهم وثقافتهم الخلاص من تخلفهم، أنهم صاروا مسخا، دون هوية أو سمات حضارية.
وفي نفس الوقت رأت شعوب شرقية أخرى، ومنها عربية أيضًا، ضرورة التمسك بالتراث والثقافة القديمة، وعدم السير في دروب الغرب وتقليده، فحافظوا على هويتهم وتاريخهم، وتقوقعوا على ذواتهم، ومن ثم لم يتقدموا قيد أنملة عن ماضيهم، وظلوا على جاهليتهم الأولى، حتى صار ماضيهم وثقافتهم محل سخرية ونقد، ولم يقدموا شيئا جديدًا مفيدًا للبشرية، كما فعل الغرب.
ولنا في روما العبرة والدرس، تلك المدينة، وهذا الشعب، الذي جمع بين القديم والمعاصرة، وعمل بكل احترام على توقير الماضي واحترامه فاحترمه الآخرون، وأخذ بالأسباب فأنشأ الحديث المعاصر، ووضعه جنبا إلى جنب مع القديم، فاستحق الخلود بين الأمم، فليت الشعوب الشرقية، والعربية منها، تفعل كما فعل الرومان، الأخذ بأسباب التقدم والتحضر وممارسة الحياة بأساليب حديثة مع الحفاظ على الهوية والثقافة المجتمعية القديمة، والجمع بين القديم والمعاصرة في آن واحد، دون إغراق في التغريب أو تقوقع على الهوية، حتى لا تضيع تلك الشعوب وتندثر.
اقرأ أيضاً:
الثقافة وبناء شخصية الفرد والمجتمع
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.