وبعد، فعلينا أن نُنزل القضية الفلسطينية وفي القلب منها القدس داخل هذا الحوض النظري الذي قدمنا به، لنعرف مكانها أولًا وترامي أطرافها ثانيًا، ومن ثم سبيل الخروج منها ثالثًا.
طريقنا إلى هذا الإنزال مقدمة تجمع ما بين التاريخ والجغرافيا، إذ إننا بأول الزوجين (التاريخ) نتسلل إلى روح الأحداث لنعرف موجِّهاتِها ونربط بين حلقاتها على مستوى المجال الفكري، وبثاني الزوجين (الجغرافيا) ندخل إلى المجال المادي لنكتشف نتائج الأحداث على الواقع المادي، فنربط بين الجزئي والكلي، كل هذا الكلام يحدوه حرص مني على ألا أقع في وهاد تفاصيل الجزئيات إلا بالقدر الذي يخدم تحصيل الكليات، مستشرفين بفضل هذه الرؤية التكاملية التي تجمع بين التاريخ والجغرافيا– آفاق المستقبل الذي هو بغية كل تفكير عملي.
وعليه أقول: إذا كانت منطقة “الشرق الأوسط” في هذه الآونة التي يمر بها عالمنا من أكثر بؤر العالم اضطرابًا فإن القضية الفلسطينية من أكثر قضايا هذه المنطقة –إن لم يكن العالم– تعقيدًا، وفي القلب من هذه القضية تقرير وضعية القدس تلك التي تمثل عصب هذه القضية، فهذه القضية محور كثير من مشكلات العرب الخارجية والداخلية، الإقليمية والمحلية، فما من مشكلة عربية مؤرقة إلا وبينها وبين هذه القضية نسب وصلة ما، سواء أكانت صلة مباشرة أم كانت غير مباشرة.
ومن ثم فالقضية الفلسطينية إشكالية العرب التي تمثل أُمّ مشكلاتهم باعتبار الزمن الحديث وباعتبار صعوبتها، فتغذي مشكلاتهم وتتغذى منها في الوقت ذاته، والمرض الأكبر الذي يطرحه الإرث السياسي والتاريخ والجغرافيا والمسؤولية الحضارية والكرامة الإنسانية– عليهم جيلًا بعد جيل، حكامًا وشعوبًا، وإن هم تغافلوا عنها لحظة ستكون سبب حتفهم، فليس بوسع دولة عربية أو إسلامية أن تتنكر لها، لأسباب أخلاقية وسياسية تتعلق بالداخل قبل الخارج، لذلك من العبث أن يقال إن العرب أو بعض دولهم قد تخففوا من هذه القضية في برهة من الزمن، لكن الصواب في التوصيف الأمين أن يُقال: إنهم شُغلوا عنها بما هو أدهى وأمر، إذ إنها مقياس حرارة الجسد العربي.
بل إن باستطاعة هذه القضية بالذات وموقف العرب ومكانتهم منها وفيها– أن تعطيك ملخصًا بانوراميًا عن الوضعية الحضارية والمادية للأمة العربية خصوصًا والإسلامية عمومًا، فهي المرآة التي باستطاعة العرب والمسلمين من بعدهم أن يروا فيها أنفسهم وجوديًا، هذه حقيقة لا مرية فيها.
وأنا لا أقرر هذا لاستثارة الجماهير المكلومة شأن الغلمان والصبية، لكن لأبني على ذلك حقيقة أخرى لا تقل ثقلًا عن الحقيقة الماضية، ألا وهي أن إشكالية بهذا التعقد لا تجدي معها المقاربات الارتجالية ذات الطابع الانفعالي الممزوجة بالعنترية العربية التي تقنع الجماهير بيد أنها لا تغير الواقع، أو المقاربات أحادية النظر التي تغفل تعقد القضية فتزيد الأمور سوءًا، إذ إننا تعلمنا أن القضية المعقدة تحتاج لفهمها والتعامل الأمثل معها إلى بناء نموذج مركب متعدد الأبعاد حتى يكون كُفْئًا لتعقدها، وأن هذا النموذج المركب سبيل حلها من ناحية، والمنجاة المرتجاة من الحلول الاختزالية المثارة حولها من ناحية أخرى.
استعداء التاريخ بين جهل الداخل ومكر الخارج
إن الناظر المتأمل في الواقع العربي على مستوييه الداخلي الجماهيري، والخارجي الإقليمي والدولي، يرى بعين البصيرة أن العرب واقعون في محنة قاسية تعصف بواقعهم وتتهدد مستقبلهم على المدى المنظور وغير المنظور، ألا وهي وقوعهم فريسة في يدي قوى تريد أن تجعل من التاريخ العربي والإسلامي سجنًا وكابحًا إلى الوراء بدلًا من أن يكون دافعًا وحافزًا نحو الارتقاء.
العجيب المحزن في حالتنا أن هذه القوى، سواء أكانت داخلية أم كانت خارجية، في الظاهر والحال متنافسة إلا أنها في الباطن والمآل تكاد تكون متحالفة، وحتى لا يكون كلامي تحليقًا نظريًا دون تحديق تشخيصي، أخصص القول شارحًا: إن تحالف جهلة الداخل مع ماكري الخارج، يكون تارة نتيجة الغباوة الظاهرة غير المقصودة من كليهما، وأخرى نتيجة العداوة المتسترة المقصودة من كليهما، تلك التي نسميها “مؤامرة”، وسواء أكانت هذه أم كانت تلك فإن النتيجة في النهاية واحدة، وهي التحالف الموضوعي بين الجهلاء من الألداء على جسد الأبرياء.
فإسرائيل وهي في كلامنا مثال على قوى الخارج التي صيّرت التاريخ عدوًا للحاضر والجغرافيا، وذلك بإفراطها في نفي التاريخ بطمسها للجغرافيا، ذلك أنها تعلم أنها تسير ضدهما، أي الجغرافيا والتاريخ، ذلك النفي الذي يتجلى بأفعالها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تلك المتمثلة في هضم حقوق الشعب الفلسطيني سواء أكانت حقوقًا معنوية ذات طبيعة دنيوية تتمثل في الحياة الكريمة، أو كانت ذات طبيعة دينية تتمثل في وضع اليد على المقدسات، أم كانت حقوقًا مادية تتمثل في سلب الأرض وبناء المستوطنات والجُدر وتغيير معالم الجغرافيا الطبيعية والبشرية، ذلك الذي يرمي إلى تهميش التاريخ بل محوه.
قد دفعت هذه الأعمال المتطرفة من إسرائيل تجاه التاريخ العربي– كثيرًا من شباب العرب إلى التمترس بالتاريخ عن طريق استنساخه واستدعائه للحاضر دون حسابٍ للمتغيرات أو مراعاةٍ للظروف والسياقات سواء أكانت سياقات المستدعَى (التاريخ القديم) أم كانت سياقات المستدعِي (القارئ المعاصر لهذا التاريخ القديم)، بحثًا عن انتصار مفقود في الواقع المعيش، الأمر الذي جعل هؤلاء الشباب يكونون بتصوراتهم البسيطة الساذجة عن التاريخ عدوًا للجغرافيا تلك المتمثلة في الدول الناشئة فوق هذه الجغرافيا، فبدأنا نلحظ ميلًا عند هؤلاء الشباب إلى الإمبراطورية، لكن هذا الميل كان تحت غطاء ديني هو الخلافة الإسلامية، الأمر الذي جعلهم في المآل أعداء لبلادهم.
هكذا انتهينا على مستوى الداخل إلى صورة يصير فيها تاريخ البلاد سجنًا يكبح قواها بدلًا من أن يكون حافزًا لهذه القوى، تارة بمحاولة اتخاذه حصنًا منيعًا يحرمنا من التفاعل مع لحظتنا واستيعابها ضمن منظور جديد، قد يختلف مع قديم التاريخ في الشكل إلا أنه لا يختلف عنه في الجوهر والمضمون، وأخرى بوضعه، أي التاريخ، في مواجهة الجغرافيا المتمثلة في الدولة القومية تحت مسميات لا تعبر عن واقع بقدر ما تعبر عن هوس إمبراطوري.
في حين أن السبيل القويم لاستيعاب واقعنا بصوره المتجددة كافة، أن نعترف بأن الدولة القومية لا تزال ضرورية قاعدة ووسيطًا بين ما هو فوق قومي وما هو دون قومي، وأن تنظم قضية الانتماء في ضوء ذلك.
مقالات ذات صلة
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا