اسمع من الفيلسوف – “إذا أصغيت إصغاءً جيدا، فسوف تفهم جيدا”
الفيلسوف الأول
“إذا أصغي المستمع إصغاء جيدا، فسوف يفهم جيدا”
كانت البداية عندما طرح أحدهم سؤالا في أحد اللقاءات الخاصة التي تجمعني ببعض الأصدقاء، كان السؤال هو “وهل تعتقد أن العالم يحتاج إلى الفلسفة؟”
جاء السؤال بعد عاصفة من النقاش حول العالم وتطوراته النارية والأوضاع الداخليه والخارجية وأحوال المجتمع وطبقاته وخاصة طبقة الشباب.
كانت جلساتنا تبدأ بود وحب نتيجة انشغالنا بأمورنا الخاصة وتباعد فترات التواصل واختلاف وسائلها، ولنفس الأسباب كانت تتحول إلى حروب كلامية يتأذى منها الجميع! ووقتها نكتشف رغم صداقاتنا كيف تتباين شخصياتنا وآراؤنا ونظرتنا للحياة ومعانيها، الأمر الذي منع وجود أي أرض مشتركة نتفق عليها لنبدأ حواراتنا وتتسع دائرة الخلاف حتى يعلن أحد الأصدقاء الانسحاب من الحوار فينغلق الحوار بأكمله، هذا هو صمام الأمان الذي اتفقنا عليه في حال وصول النقاشات للنزيف، أن نبتر المحادثة حفاظا على الأرواح!
اختلفت آخر جلساتنا نوعا ما، قد يكون السبب استراتيجية وضعتها قبل بدء النقاشات وهي الاستماع قبل الرد، وتنظيم الجلسة، والاتفاق على عقوبات مالية لمن يخالف القوانين، وقد نجح هذا في ميلاد حوار جميل بنَّاء لم يلقَ حتفه مثل ما سبقه من نقاشات.
المهم نعود للسؤال المصيري والذي كان يسأله أحدنا ببراءة “هل العالم يحتاج إلى الفلسفة؟هل يحتاج الى وجود الفيلسوف ؟ ”
كان هذا السؤال ردا على كلامي بشأن الدفاع عن الهوية المصرية وأنها ليست عاقرًا وأنها “ولادة”. وفي وسط الكلام ذكرت أن مصرنا بلد أول فيلسوف عرفه العالم، فقاطعني أحد الأصدقاء وسألني “هل أنت يوناني؟” ابتسمت ورددت “لا أتكلم عن فلاسفة اليونان، بل أتكلم عن مصر” وعندما تجلت الدهشة على وجوه الجميع وعلمت أنى قد ملكتهم بدأ الكلام عن الرجل الذي لا يعرفه الكثيرون للأسف.
“لا تتحدث إلا عندما يكون لديك شيء يستحق أن تقوله”.
من حوالي 2400 قبل الميلاد وفى عهد الأسرة الخامسة كان هناك وزير يسمى “بتاح-حتب”. عرف “بتاح – حتب” بالتعاليم والقيم الإنسانية التي نقلت عنه في ثلاث برديات توجد واحدة منها الآن في فرنسا واثنتان في إنجلترا هل عرفت الان من هو الفيلسوف الاول ؟.
شكلت تلك البرديات أول نصوص فلسفية في العالم تحوي حكمة ورؤية عميقة للأخلاق والضمير، كان “بتاح – حتب” كاهنا للماعت. والماعت عند قدماء المصريين هي قوانين التوازن الكوني التي تضمن استمرار الكون وتحفظه من السقوط في هاوية الفوضى والظلام.
تأمل قدماء المصريين في الكون فاكتشفوا تلك القوانين العليا للتوازن الكوني (الماعت)، فأرادوا أن تكون الأرض صورة للسماء، تلك الرغبة الصادقة في محاكاة الكون واستلهام النظام الكوني هو الذى جعل المصري القديم يضع الماعت هدفا أسمى له، و من هنا كان فجر الضمير.
ربط قدماء المصريين بين الماعت (قوانين التوازن الكوني) وبين الأخلاق والضمير والعدل. لذلك ليس عجيبا أن نكتشف أن “بتاح – حتب” كان قاضيا، فكونه كاهنا للماعت يجعله بالضرورة وفق النظام الإداري الفرعوني أيضا قاضيا لكى يرسى قواعد الماعت (العدل) على الأرض.
يصنف الباحثين تعاليم “بتاح – حتب” المنقولة عنه على أنها أول نصوص في العالم تتناول القيم الإنسانية بمفهومها الواسع الذى يستوعب الإنسانية كلها، وتحوى تلك النصوص الفلسفية قيما عليا مثل العدل والصدق والتواضع والرحمة وضبط النفس. تكلمت أيضا عن ضرورة تفادي الصراعات غير الضرورية كلما أمكن، وأرجعت ذلك للحكمة والتعقل لا الضعف والجبن. وهذه القيمة بالأخص (تفادي الصراعات) تعكس الطبيعة المسالمة للشعب المصري.
حينما فرغت من الكلام لم يكن أمامي سوى وجوه متعجبة يعلوها لذة من تعلم شيء قيِّم، فبادرت بذكر بعض الحكم من عبق تراث ذلك الفيلسوف والتي تمس حياتنا بشكل أو بآخر مثل:
“المرأة ذات القلب السعيد تجلب التوازن”.
“هؤلاء الذين يشتهون النساء دائمًا، لن ينجحوا بشيء مما يخططون له”
“وأنت أيها المرء، علم ابنك الكلام المتوارث، فربما كان مثالا يحذو حذوه أبناء العظماء، وقد يجدوا فيه الفهم والعدل لكل من يخاطبه، بما أن الإنسان لم يولد حكيمًا”
“من لديه قلب كبير لديه هبة من الله، ومن يُطع بطنه، فهو يطع عدوه”
“تكلم فقط إذا كان لديك شيئا معقولا تقوله.”
كل هذه مقولات عن الإنسان والمجتمع، وكيفية التصرف بحكمة في تلك الدوائر، لا يجب أن تستورد كفلسفة من الخارج لتنجوا بنا بل لدينا مشاعل من الحكمة والمعرفة بالفعل في دارنا.
وهنا بادرني أحدهم بالسؤال” هل تعتقد أن العالم يحتاج إلى الفلسفة؟”
قلت له وأنا مبتسم: في الحقيقة أن العالم به العديد من الفلسفات التي تديره بالفعل، لا بد من وجود فلسفة طالما أن هناك إنسان مفكر، السؤال الأهم الآن هو أي تلك الفلسفات يمكن أن تنقذ العالم؟
إن عددًا من الباحثين يعتبرون مصر بالفعل “أم الدنيا” وأنها حضارة ألهمت العالم، لكن عددًا من الشباب المصنوع في الخارج يتقززون من الوطن ويسخرون منه. إن هويتنا المصرية بها الكثير لنستلهم منه عبق التاريخ الذي يمكن أن يصلح الحاضر وينير ظلمة المستقبل. نحتاج اليوم لتلك النظرة المسلحة بنور العقل والحكمة في واقع مجتمعنا وفي دروس التاريخ وعلم القدماء بطريقة تتناسب مع متغيرات الحاضر وفي نفس الوقت تحافظ على هوية وقيم الإنسان. فلا تنزل به لمستوى الحيوان المادي الاقتصادي الذي لا هم له إلا المادة لدرجة تسمح له بالاعتداء بلا رحمة على الطبيعة وعلى أخيه الإنسان. كما أنها لا تطلب منه المستحيل بأن يترفع عن الدنيا تماما وينزوي في تطرف عن احتياجاته المادية.
لقد كانت تلك الوجبة المتزنة بين غذاء الروح وغذاء الجسد هي هدف الفلسفات القديمة الأسمى، أو أكسير الحياة وحجر الفلاسفة الذي نسمع عنه في أساطير الكيمياء القديمة (الخيمياء). حاولوا تقديم عديد من الأطروحات التي تصف مقادير هذه الوجبة، نجح البعض وفشل الآخرون ولكن لم تنم مساعي البشرية عن طلب هذا الأمر. فالسعادة لا تتحقق إلا بالعدل بين مكونات الإنسان (المجرد والمادي).
لذلك علينا اليوم أن نربي هذه العقول مجددا وتلك المؤسسات العلمية الخاملة في مجتمعنا عليها أن تنفض عن نفسها غبار الكسل والنمطية والتسليم للعدمية والسيولة الفكرية التي أصابتنا من الغزو الفكري الغربي، وأن تبدأ في البحث الحقيقي عن حلول لمشاكلنا، بنظرة فريدة تنبع من هويتنا الخاصة وتسعى نحو إنتاج مجتمع فاضل بالعقل والأخلاق، ونشيط منتج متواصل مع متغيرات حاضره وتحديات واقعه التي يواجهها على الأصعدة المختلفة كالاقتصاد والبحث العلمي والتحديات السياسية والاجتماعية. مجتمع فعلا يستطيع أن ينشر الخير والبركة بعمله واجتهاده أو كما يقول الحكيم الفيلسوف “بتاح-حتب”:
“إذا كنت تعمل بجد، وإذا كان نمو الحقول كما ينبغي، فذلك لأن الله قد وضع البركة في يديك”
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.