الفيسبوك وأخواته.. الحرب غير المعلنة بإستخدام وسائل التواصل الإجتماعي
لو كنت تكلمت عن هذا الموضوع سابقا ربما لم يكن بهذا الوعي والبصيرة مثلما أتكلم عنه اليوم، ففي السابق ربما كانت النظرية هي ما يشكل أغلب رؤيتي لموضوع صفحات التواصل الاجتماعي، أما اليوم فبعد تجربة أربع سنين على جبهة الحرب الناعمة ومواقع التواصل الاجتماعي فإنني على يقين بأهمية الموضوع لا فقط من الجانب النظري، ولكن على أرض الواقع وبالنتائج العملية المحسوسة التي أشعر بها كلما دخلت على هذه المواقع.
نظرة مختلفة لوسائل التواصل الإجتماعي
لا أريد اليوم أن أتكلم عن أضرار أو مفاسد هذه الوسائل والصفحات، فهذا الكلام عفى عليه الزمن ولا أظن أنه سيغير شيئا، فمن أدمن أدمن! ولن يستطيع التغيير بسهولة ليعود لأيام الزمن الجميل، ومن لم يعتد بعد على هذه الصفحات فإنها فقط مسألة وقت قبل أن يذهب إليها ويتفاعل معها بطريقة أو بأخرى، إن الوقت الآن ليس وقت النداء بتركها أو اعتزالها وذلك أيضا بسبب تغلغلها في أدق تفاصيل حياتنا وأنشتطنا الثقافية، فحتى إن تركتها فإنها لن تتركك، وهذا هو السبب الرئيسي الذي يدفعني اليوم للكلام.
فأنا سأتكلم اليوم عن الميدان والجبهة بمسمياتها الحقيقية التي يجب أن تسمى بها وأصف الفيالق والفرق التي تشارك في الحرب لكي أحاول أن أقربكم أكثر من جسامة وجدية الموضوع، وذلك على أمل أن نبني سويا جبهة دفاع قومية وثقافية تعبر عن حضارتنا وترد عنها المكائد التي تحاك ضدها وتدافع عن مقدساتها التي استبيحت وتوقظ الضمائر والعقول الخاملة النائمة، خاصة وأن أحد أهم المخدرات التي أدخلت العقول في هذه الغيبوبة الفكرية والثقافية هي نفس وسائل التواصل الاجتماعي التي سنتكلم عتها اليوم.
السلاح الخفي
إن السيف شر طالما أن نصله يتجه نحوك ومسلط على رقبتك، أما لو تعلمت كيف تمسك بالسيف من مقبضه فتصد به الضربة التي يوجهها لك العدو ثم ترد له الضربة ضربتين، فإن السيف يصير ضروريًا لاستمرار حياتك، كذلك هو الأمر بالنسبة لمواقع التواصل الاجتماعي، فكم النفقات التي تصرف عليه وعدد البرامج والخوارزميات المعقدة التي تطور من أجل أن يقدم لك الموقع نوعًا جديدًا من الإحصائيات أو أيقونة جديدة أو خدمة جديدة هو أمر لا يستهان به؛
فالغرب ليس جمعية خيرية تلقي بالأموال بلا حساب لإسعاد الناس، بل نحن على يقين بأن كل سنت ودولار يصرف في مثل هذه البرامج والمواقع يجب أن يصب في خدمة المشروع الغربي والصهيوني والنظام العالمي الجديد ويمكنه من السيطرة الأدق والاكفأ على المجتمع العالمي، هذا هو واقع الأمر والمنطلق الذي ننطلق منه لنكمل النقاش، النقطة المحورية أن مواقع التواصل الاجتماعي هي أحد آلات وأسلحة الغرب للسيطرة على الشعوب المستضعفة التي تقع تحت وطأتها.
مواقع التواصل الاجتماعي سوق أفكار
إن الميزة التي تعطيها لنا مواقع التواصل الاجتماعي هي الإعلام غير المحدود، فكل صفحة على الفيسبوك هي منبر فكري مستقل ينشر أفكاره على الناس في ما يشبه سوق عالمي كبير للأفكار، تدخل أنت هذا السوق وربما لا تعرف أنه سوق وأنك ستشتري رغما عنك بعض الأفكار أو ربما الكثير من الأفكار وأنت تسير في شوراعه وأزقته الكثيرة، فالطريقة التي تعرض بها الأفكار مغرية جدا وشيقة في كثير من الأحيان لدرجة لن تستطيع معها مقاومة العرض حتى وإن كنت تمتلك بالفعل بديلًا فكريًا أو ثقافيًا ولكن ربما ليس بتألق أو بهرجة المنتج الذي جذب عينيك، أما لو كنت ممن يعانون من الخواء الفكري والفراغ الثقافي فسيصبح تبضعك من هذا “السوبر مول” للأفكار أمرًا طبيعيًا وبديهيًا.
فلا نتعجب اليوم حينما نجد إخواننا من نفس الأوطان ومن نفس الخلفيات الثقافية والحضارية يتبعون صيحات وصرخات فكرية شاذة وغريبة عن مجتمعنا، نداءات فكرية فاسدة ليس الهدف منها إلا الفتك بكل ما لدينا من قيم وأخلاق ضرورية للحفاظ على الترابط الأسري والاجتماعي الذي هو ركيزة أي مشروع حضاري وإنساني حقيقي يمكن أن يغير الواقع الأليم الذي نعاني منه اليوم ونصرخ تحت وطأته والذي ربما يدعي البعض أنه هربا من ويلات هذا الواقع الأليم اتجه لهذه الأفكار الشاذة الخبيثة، إن الذين يقدمون على هذا الاختيار ليسوا إلا أشخاصا سئموا من لعب دور الضحية في مخيلتهم فقرروا تقمص دور الجزار قليلا،
فبدل من الصمود في صفوف المستضعفين والتفكير في وسيلة للنهوض بهذا العدد الرهيب من المستضعفين تحت ظلم وطغيان النظام العالمي الجديد، فإنهم يستسلمون للنظام العالمي ولقادته ولأفكاره، ليس هذا فقط بل يستلمون منه نفس السياط والعصي التي كانوا يضربون بها في الماضي ليكملوا هم الوظيفة بدلا من أن تتسخ قفازات الغرب الحريرية بدمائنا، إنها الخيانة المحضة التي تتستر ببعض المبررات الواهية.
الحل الحقيقي للأزمة لا يُعجب البعض
ولكن لنعود لجبهة المستضعفين، لم يعد من المقبول أن نطلب من الناس أن تتحمل دون خطة وأمل حقيقي في القيام والنهوض والخلاص من الظلم، ولكني أقول أن المشكلة ليست في عدم وجود الحل والعلاج لهذه الأزمة، فالحل موجود وظاهر ويتكلم عنه الكثيرون من السابقين والحاضرين، ولكن المشكلة أن الحل لا يعجب البعض عندما يعرض عليهم، لم تكن أبدا المشكلة في الرصاصة التي تطلق من البندقية، لقد كانت المعركة الحقيقية دائما في العقل الذي يقف خلف البندقية، فبينما يفضل الغرب غياب أي أفكار عدا المادية والأنانية في عقلية جنودهم، لكي يتحولوا للجندي “السوبر” الذي يقتل دون أي تفكير أو تردد، فإن من ضروريات الجندي الذي يحارب من أجل الحق أن يعرف عن وعي وإيمان أهمية القضية التي يحارب من أجلها.
تتحدث القصص التاريخية عن محاربي الصين واليابان القدامي أن مدارسهم كانت تتعهد الإنسان عقلا وروحا قبل أن تتعهده جسديا، فعقيدة المحارب أهم بكثير من مهاراته العسكرية على أرض المعركة، فمهما بلغت مهاراتك من الدقة والإبداع فإنك ومن دون التوجه الفكري الصحيح ستشعر أن مواهبك هي سلعة يمكنك أن تبيعها لمن يدفع الثمن الأعلى،
عقيدة المحارب أهم من مهاراته
أما المحارب ذو العقيدة فيعرف أنه مهما عظمت أو قلت موهبته فإن كل هذه المهارات لا قيمة لها إن لم تخدم القضية الصحيحة التي تستحق أن يفني فيها الإنسان حياته ويضحي بكل ما يملك من أجلها، هذه هي كانت نقاط الفصل والتميير بين المحاربين على جبهة الحق والإنسانية في مقابل جبهة المادية والأنانية والظلم.
ولذلك ففي جبهة المستضعفين فإن البداية الحقيقية للمقاومة وتغيير الواقع هي في التعليم، وهي كلمة لن تعجب الكثيرين من مجموعة “كفانا فلسفة”، فهم يفضلون “الأكشن” والحركة حتى وإن كانت عشوائية وغير مجدية عن النظرة المدروسة لواقع ميدان المعركة والتحرك المحكم والتخطيط الواعي، إن العدو يخطط كل ليلة وكل يوم وكل ساعة ودقيقة ليصمم الأفخاخ ليوقع بنا واحدا وراء الآخر، أما نحن فنعتقد أننا يمكننا أن نزيل كل هذا الشر بمجرد بعض الحماسة الخاوية والانتحارية اللا عقلانية دون أي تخطيط أو تفكير متأني.
لكن ليست هذه الحالة عند الجميع، فاليوم تزداد نداءات العقلانية دون خنوع والصبر دون تسويف لاختيار الميادين المناسبة للمعركة دون تهور أو تسرع نحو الهلاك دون بصيرة، تبدأ المعركة في العقل فعلا بدراسة ميدان المعركة نفسه، واستخراج كل الإمكانيات التي يمكن أن تستخدم في سبيل الفكرة التي تريد أن تحققها، في المعركة الحقيقية كل مجهود يجب أن يكون منظمًا وموجهًا نحو الهدف الرئيسي، وإلا كان كل هذا المجهود بلا جدوى، إن كل صفحة شخصية وموقع ومجموعة هي ساحة من ساحات المعركة تتناحر فيها نداءات الغرب بالتمييع والسيولة الفكرية والانعدام الأخلاقي والأنانية والمادية في المعتقدات والسلوك ضد نداءات الشرق بالالتزام الأخلاقي والرقي الفكري والمؤاخاة والإنسانية والعدالة الاجتماعية.
ساحة للمعارك الفكرية
تبدأ المعركة عند المقاتل في عقليته وأفكاره، هل يستحق العدل أصلا أن أحارب من أجله؟ أسئلة وجودية مثل هذا السؤال كثيرة تجول في خاطرة المحارب قبل أن يضغط على الزناد ليطلق طلقته الفكرية في فضاء ميدان الحرب الناعمة، ما الذي يدفعني اليوم لأن أضيع من وقتي نصف الساعة أو الساعة لأكتب هذا المنشور أو هذا المقال أو أنشر ذلك الفيديو الذي يتكلم عن هذه القضية أو تلك الظاهرة؟ سؤال مهم لو لم نعرف إجابته لن نستطيع أن نستمر في هذه المعركة طويلا.
إن للفكر الغربي آلافًا مؤلفة من الجنود الذين يمضون الكثير من الساعات في نشر مميزات وتجليات فكرهم الماضي ورؤيتهم للحياة و”الحلم الأمريكي”، لا نعتقد بأنهم يفعلون ذلك رغما عنهم، بل لأنهم على إيمان بأن هذه هي سعادتهم الحقيقية، فيدافعون عنها وينشرونها في كل صفحاتهم ومواقعهم، فهل نحن نمتلك مثل هذه العقلية ومثل هذا الارتباط بنظريتنا الخاصة عن الوجود والعدل والسعادة الإنسانية؟ أم اننا عندما ننظر لمنتجاتنا الفكرية ننظر لها بعين الخجل والاشمئزاز الذي يمنعنا من المضي قدما وبثبات للإعلان عن حضارتنا وأفكارنا التي نؤمن بها.
الحضارة الشرقية
أتذكر في بداية مشواري في الكتابة أنني عندما كنت أكتب كلمة “حضارتنا” أو “ثقافتنا” كان صوتا صغيرا ساخرا في داخلي يصرخ ليقول لي “عن أي حضارة أو ثقافة تتحدث أيها الواهن الضعيف المختل عقليا، أنت شرقي! أصلا لا تملك أي حضارة أو ثقافة، أين هي مفاعلاتكم النووية ورقائقكم الإلكترونية وحواسيبكم المتقدمة والخارقة وصواريخكم العابرة للقارات؟ هل تخدع نفسك بهذه الكلمات أم تخدع الناس؟”،
لقد كان هذا الشعور الذاتي بالنقص هو المؤرق لي طوال سنين كثيرة عندما أحاول أن أوقظ في أصدقائي أو أقربائي أو الناس عامة أي إحساس بالوطنية أو الحرص والحذر من أعدائنا من الأمريكان والصهاينة، كان إحساسًا أسودًا حزينًا يدمرني من الداخل وأنا أعرف أنه لا يوجد مصداق حقيقي بعد للكلمات التي أرددها، فنموذجنا الحضاري مازال للأسف قيد النظرية والكتاب ولم يخرج بعد لحيز الواقع والتنفيذ في عالمنا العربي على حد علمي وإطلاعي على أخبارنا الحزينة الانقسامية الخانعة للغرب ولإسرائيل.
الحضارة الغربية
ولكن هل فقط عدم خروج هذا النموذج لنور التطبيق يعتبر سببًا كافيًا لكي أهجر هذا النموذج كما هجره الكثيرون من قبل؟ وهل نجح هؤلاء، لا في تحقيق سعادة الإنسانية العامة، ولكن وعلى أبسط مقياس هل نجحوا في تحقيق سعادتهم الشخصية حتى؟ إن نفس العقلية التي تسخر من نموذجي الشرقي المحبوس في طور النظري تفرض عليّ أن أسخر من هؤلاء الغربيين والمستغربين الذين يظنون بعجرفتهم وكبريائهم اللامتناهي أنهم وصلوا لكأس السعادة الإنسانية المقدس،
ها هي اليوم الحضارة الغربية تزداد جرائمها أكثر وأكثر دماوة ودناءة في كل أركان الأرض، والأرض قد أغرقتها دماء الملايين من الأبرياء ضحايا هذا السعي “الحضاري” نحو السعادة الإنسانية واتشرت في كل البلاد جثث الموتى من المجاعات والحروب المفتعلة التي تصنعها نفس الحضارة الغربية التي تطلبون منا بكل غرور أن نتبعها في صمت دون مناقشة أو مراجعة أو تفكير، نعم نموذجنا مازال نموذجًا نظريًا، لكن نموذجكم فشل في الرد على الإشكالات النظرية وأيضا يحقق اليوم فشلًا مروعًا على الجانب العملي على أرض الواقع.
كل هذه الملاحظات هي مصدر يقيني وتأكدي أن الأمل سيكون كما كان دائما في النظرة الشاملة للإنسان والوجود التي لا تحصره في المادية فتحولنا لحيوانات تتصارع من أجل البقاء والاستمتاع بالملذات الجسدية الأساسية، ولا تحصره في حيز المجرد فتعزله عن العمل في أرض الواقع بحجة الارتقاء والالتحام بالمجرد المطلق كما تدعي بعض النظريات الروحانية المجردة،
الحل.. ماذا نفعل مع وسائل التواصل الإجتماعي
إنما الحل في الاتزان بين العقل والجسد، فنبدأ بإصلاح تفكير وأفكار العقل، ثم نخرج هذه الأفكار من الحيز النظري للحيز العملي والتطبيق من خلال الشباب الذي ترسخ في عقله أهمية العدل لكل الإنسانية كمفهوم عام وشامل ومهم يستحق الدفاع عنه والتضحية من أجله بالغالي والنفيس، هذه هي المعركة الحقيقية منذ بداية الخلق وحتى اليوم، معركة مستمرة بين الحق والباطل والظلم والعدل، فقط تختلف انعكاساتها حسب الميدان الذي تتصارع فيه هذه الأطراف.
وفي ميدان التواصل الاجتماعي فيمكنك في المرة القادمة وأنت تفتح صفحتك الشخصية أن تتخيل نفسك كما تشاء، يمكنك أن تكون من الخانعين المقهورين لسيل الأفكار الذي يحاول المستكبر أن يملأ به عقلك، أو أن تكون من المستضعفين الخائنين المستسلمين للفكر الغربي والذين تحولوا لبوق إعلامي أعمى لأفكارهم دون أي مراجعة أو تدقيق،
أو يمكنك أن تكون من المستضعفين المقاومين، الذين على الرغم من كل الصعوبات يحاولون إعادة إحياء وبعث نظام العدل والسعادة الإنسانية الحقيقية بمعناها الشامل العام، لا فقط السعادة المقتصرة على الشهوات والملذات الدنيوية، من اليوم فصاعدا أنت تعرف أنك أنت الميدان والمعركة، وأن الرصاصة والزناد والبندقية بيدك، وأنت من سيختار الجبهة التي تستحق أن تحارب من أجلها.
اقرأ أيضاً .. مأساة المجتمع الأزرق
اقرأ أيضاً .. ماذا يفعل بنا الفيسبوك وأمثاله
اقرأ أيضاً .. الذكاء الاجتماعي
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.