يبرر طه عبد الرحمن اشتغاله كفيلسوف بسؤال العنف لاشتغاله بنقيضه، أي العقل، حيث انبرى لمثل هكذا اشتغال منذ كتاباته الأولى التي عنى بها بمسائل الاختلاف والحوار وآداب المناظرة في كتاباته المتقدمة، من قبيل “العمل الدّيني وتجديد العقل”، ثم مساهمات لاحقة مثل “في أصول الحوار وتجديد علم الكلام”، “الحوار أفقا للفكر”، و”حوارات من أجل المستقبل”.
فمثلما أخبر طه عن موضوع العنف “موضوعه همّني منذ صدور كتابي: العمل الدّيني وتجديد العقل، سنة 1987، فقد حذّرت في مقدمته من احتمال تراجع الصّحوة الإسلامية […] وها نحن نرى اليوم أنّ هذه الصّحوة شابها من الأخطاء ما أخرج بعض أهلها إلى القسوة وممارسة العنف” .1
إلاّ أنّ راهن الاهتمام بمثل هذا الموضوع ينطوي على مفارقة كانت عالمة الاجتماع والفيلسوفة الألمانية حنّة أرندت HANNAH Arendt) 1906-1975) قد أشارت إليها، المفارقة أنّ العنف لعب دورا عظيما -وعلى نحو دائم- في شؤون البشر وتحريك عجلة التّاريخ لديهم. لكن في مقابل ذلك “نادرا ما كان العنف موضع تحليل أو دراسة” لأنّه وببساطة “المرء عادة لا يطرح أسئلة حول أمور تبدو بديهية للجميع” . 2
السلطة والعنف
لذا وكأيِّ طرح راهني يرمي بثقله على البشرية وواقعها المعيش، بدى العنف أكثر من أيّ يوم مضى يلفت عناية مؤسسات ومراكز بحثية عديدة، تنفق أموالا طائلة على مشاريع بحثية يديرها علماء اجتماع وعلماء بيولوجيا وكذا علماء الحيوان لأجل فك لغز “العدوانية” الماثلة في طبيعة السّلوك البشري، تبلور بموجبها علم جديد يعرف بــ (Polemology) 3 .
رصد القول الفلسفي للعنف يقود إلى إماطة الستار عن مقاربات عديدة لتلك الظاهرة، فمنها المقاربة السّياسية التي ترى في العنف ممارسة سلطوية لنظام الحكم القائم، وهو ما ذهبت إليه الماركسية وأحزاب اليسار في قولها بالصراع الطبقي والاجتماعي، فالعنف لم يخرج من دائرة التجاذبات الاقتصادية والسّياسية للقرن العشرين.
الأمر الذّي دفع أرندت إلى التمييز بين السّلطة والعنف، فالأولى أشبه باللّعبة بحيث لا يمكن الدّخول في اللّعبة دون الخضوع لشروطها، إذ هنالك دافع لقبول الشروط تغذيه الرغبة في اللّعب، هنالك تصبح الرّغبة في اللّعب متماثلة في الرّغبة مع العيش .4 السّلطة تعني القدرة على الفعل المتناسق، إنّها ليست خاصية فردية بل جماعية، لا تنسب للفرد إلاّ مجازا، وقولنا “شخص متسلِّط” أو “شخص في السّلطة” معناه توليه للسّلطة من قبل عدد من النّاس ليفعل باسمهم، فغياب الجماعة غياب للسّلطة. بينما العنف ذو طابع أدواتي، إنّه بشكل ما قريب من “القدرة”، لكن مع استعانته بـ “الأدوات” لمضاعفة القدرة، حتى تستغني الأدوات عن القدرة في آخر مراحل تطورها. 5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1 طه عبد الرحمن. سؤال العنف بين الائتمانية والحوارية، المؤسسة العربية للفكر والإبداع: بيروت، ط1، 2017، ص 32.
2 حنّة أرندت. في العنف، تر: إبراهيم العريس، دار الساقي: بيروت، ط1، 1996، ص 10.
3 المرجع نفسه، ص 53. وهي كلمة ذات أصل إغريقي تعني في اللّغة الإنجليزية:
“The analysis of human conflict and war, particularly international war”
4 المرجع السابق، ص 108.
5المرجع نفسه، ص ص 39- 41.
اقرأ أيضاً:
ترويض العقول وتبرير العنف بين المتبوع والتابع!
بوئثيوس بين عزاء الفلسفة وعجلة الحظ!
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.