مقالات

الفلسفة وتعويذة الجي بي تي

لم نعد بحاجة إلى فانوس سحري نمسح عليه بأصابعنا، لكي يخرج منه المارد القادر على خدمتنا وتلبية بعض أهم مطالبنا الحياتية، ولم نعد بحاجة إلى تعويذات نلج بها في عالم السحر والخيال، لقد خرج المارد بالفعل من قمقمه الحاسوبي، من جوف مختبرات البرمجة والذكاء الاصطناعي، بتعويذات (أكواد) رياضية رمزية سرعان ما تمكن من التهامها وهضمها، ليبيت قادرًا على إنتاج تعويذات أخرى مماثلة، وربما أفضل منها! خرج “المُحول التوليدي المدرب مُسبقًا” (Generative pre-trained transformer)، المعروف اختصارًا باسم “جي بي تي” (GPT)، ملوحًا بإمكانات بحثية وخدمية وإنتاجية هائلة، ومهددًا بتصفية قطاعات بأسرها من المهن والوظائف، وبتجريف مهارات البحث العلمي لدى طلاب المدارس والجامعات!

المحولات التوليدية المدربة مسبقًا عائلة من نماذج اللغة المدربة عمومًا على مجموعة كبيرة من البيانات النصية لإنشاء نص يشبه النص الإنساني، طورتها مؤسسة بحثية غير ربحية تُعرف باسم “أوبن إيه آي” (OpenAI)، تأسست سنة 2015 في الولايات المتحدة بهدف تعزيز وتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي. وقد بُنيت هذه النماذج باستخدام مجموعة من المُحولات (أو الشبكات العصبية غير الترتيبية)، التي يُمكن صقلها لمباشرة مهام معالجة اللغة الطبيعية (لغة الحياة اليومية)، مثل إنشاء نص وترجمته وتصنيفه. يشير الاسم “التدريب المسبق” إلى عملية التدريب الأولية على مجموعة نصية كبيرة، إذ يتعلم النموذج التنبؤ بالكلمة التالية في المقطع، مما يوفر أساسًا متينًا للنموذج لأداء جيد في المهام النهائية بكميات محدودة من البيانات الخاصة بالمهمة.

النموذج الأخطر للمحولات التوليدية المُدربة مُسبقًا يُعرف باسم “تشات جي بي تي” (ChatGPT)، وهو برنامج للدردشة أُطلقت نسخته الأولى (GPT-3.5) في الثلاثين من نوفمبر سنة 2022، وسرعان ما جذب الانتباه لردوده التفصيلية وإجاباته الواضحة عبر عديد من مجالات المعرفة، وبعده قُدرت قيمة “أوبن إيه آي” بنحو 29 مليار دولار أمريكي في سنة 2023. أما النسخة الأحدث من المُحولات (GPT-4) فقد أُطلقت في الرابع عشر من مارس الماضي (2023)، وهو نموذج لُغوي ضخم متعدد الوسائط (يقبل مدخلات النصوص والصور).

الشعور بالفزع –كما عبر عنه عددٌ من خبراء ومُطوري الذكاء الاصطناعي– يعكس مدى خطورة هذه التقنية، وهو ما يستدعي عادة تدخل الفلسفة، أخلاقيًا على الأقل، وهو ما نناقشه في السطور التالية.

في منشور تحت عنوان “ماكينات الرد: لماذا يجب على الذكاء الاصطناعي أن يدفعنا إلى طرح أسئلة أفضل؟” (Answer Machines: Why AI Should Make Us Ask Better Questions)، نُشر على موقع “روفيان” (The Ruffian) بتاريخ 25 يناير 2023، ذهب الكاتب والمدون البريطاني “إيان ليسلي” (Ian Leslie) إلى أن موضوعًا واحدًا يجب أن يصبح أكثر أهمية في عصر الذكاء الاصطناعي، ألا وهو الفلسفة!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يُعلق “لوين تشو” (Luyen Chou)، المشتغل بتدريس الفلسفة وإنتاج وتوزيع التقنيات في جامعة كولومبيا في بروكلين – نيويورك، على منشور “إيان ليسلي” مازحًا بقوله: “بصفتي متخصصًا في الفلسفة، لم أجد بعد وظيفة مدفوعة الأجر في هذه الصناعة المذكورة، دعني أخبرك أن كلماتك قد أطربت أذني! وبعيدًا عن المزاح، كلما فكرت في كلٍ من القدرات المذهلة والقيود المهمة التي كشفت عنها تقنيات الذكاء الاصطناعي الجديدة، كلما اتفقت مع ليسلي”!

لا شك أن أحد القيود المفروضة على نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية مثل (ChatGPT) التحفظُ في إصدار أحكام منطقية. ولعل هذا التحفظ في الحقيقة ليس تقييدًا للتكنولوجيا ذاتها، بقدر ما هو نتيجة للقيود التي يفرضها المطورون البشريون، ذلك أن التركيز على البُعد الأخلاقي للعُنصر البشري من شأنه أن يهدئ المخاوف بشأن الدور الناشئ للذكاء الاصطناعي في عالمنا، ويدعم في الوقت ذاته الاعتراف بالفاعلية البشرية، وبملكيتنا جميعًا لابتكاراتنا التكنولوجية، بل ويدعم نموذجًا يؤدي فيه الذكاء الاصطناعي دورًا “استشاريًا” لا يزال يُلقي على عاتق البشر مسؤولية اتخاذ أي قرار نهائي.

مع ذلك، فإن لدينا شكًا في استمرار هذه القيود المفروضة ذاتيًا على اتخاذ القرار بشأن الذكاء الاصطناعي، فلقد خرج المارد من قمقمه بالفعل. وكما تعلمنا من ثوراتنا التكنولوجية السابقة، فإن الجهود المبذولة لتقييد القدرات الناشئة، مهما كانت حسنة النية، لم ولن تتسم بالدوام أبدًا، لأن شخصًا ما في مكانٍ ما سوف يكون دومًا على استعداد للانطلاق إلى أبعد مدى تحت ضغط الميزة التنافسية، وحتى الجهات الأكثر تحفظًا سوف تجد من المستحيل مقاومة الرغبة في فعل الشيء ذاته!

خذ على سبيل المثال الجدل المثير للغاية حول استخدام الذكاء الاصطناعي المستقل في سباق التسلح بين القوى الكبرى، فعلى الرغم من تزايد قلق التقنيين وعلماء الأخلاق وواضعي السياسات، فقد رفضت دولٌ مثل الولايات المتحدة بحزم تقييد تقنيات الذكاء الاصطناعي، مثل الطائرات المُسيرة دون طيار، فيما يتعلق باتخاذ قرارات مستقلة في ساحة المعركة، بحجة أنهم بفعلهم هذا سيضعون دفاعاتهم الوطنية في مأزق ضد خصوم أقل دقة! لكن إذا كان من المتوقع أن تتخذ طائرة مُسيرة دون طيار قرارًا نهائيًا بشأن ما إذا كانت ستطلق صاروخًا يمكن أن يقضي على إرهابي خطير، رغم ما قد يُسببه ذلك من إصابات في صفوف المدنيين الأبرياء، ألن يتحمل المُشغل البشري الذي يتخذ هذا القرار (برمجيًا) عبء العواقب لبقية حياته؟ هل يمكن للذكاء الاصطناعي إصدار مثل هذه الأحكام بشعور متساوٍ من المسؤولية؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف يجب أن نبرمج تقنيات الذكاء الاصطناعي لاتخاذ القرار الصحيح في هذه اللحظات الصعبة؟

قد يرفض بعض الباحثين هذا النوع من السيناريو باعتباره حالة متطورة، بعيدة كل البعد عن دردشة الـ”جي بي تي” التي تقدم لنا مثلًا مقارنةً بين المهارات الشعرية للشاعر الإنجليزي “ويلفريد أوين” (Wilfred Owen 1893 – 1918) والشاعر الأمريكي “روبرت لي فروست” (Robert Lee Frost 1874 – 1963)، لكن أعتقد أن هذا يخطئ الهدف، وهو ما نفصله في السطور التالية.

يبدأ مُعلم الفلسفة عادة دروسه لطلابه بتوضيح الهدف من الفلسفة وصلتها الوثيقة بقضايا الحياة اليومية ومشكلاتها الكُبرى. قد يبدأ مثلًا بإشراك الطلاب في التجربة الفكرية المعروفة باسم “معضلة القطار” أو “معضلة عربة الترام” (Trolley Car). لأولئك الذين ليسوا على دراية بهذه التجربة، فإن الأمر يسير على النحو التالي: أنت تقف عند مفترق طرق من السكك الحديدية في مواجهة قطار يندفع نحو هذا المفترق، وطفل يجلس على المسار الرئيس للقطار، وبإمكانك سحب العتلة التي تتحكم في تحويل مسار القطار لكي تنقذ الطفل، فهل تفعل؟ هنا ترتفع أيدي الطلاب بنسبة مائة في المائة بالموافقة. حسنًا، ماذا إذن لو كان خمسة أشخاص يجلسون على المسار الرئيس للقطار، في حين يجلس الطفل على المسار الثانوي الذي يمكن تحويل القطار إليه، هل تقف ساكنًا وتترك القطار يقتل خمسة أشخاص، أم تسحب العتلة لتحويل مسار القطار فيقتل الطفل فقط؟ أيهما أكثر أخلاقية؟ هنا يُصبح الطلاب أقل ثقة، ويترددون في الإجابة، وقد لا يتفقون على إجابة واحدة على الإطلاق!

سرعان ما تكشف هذه التجربة الفكرية أنه في الغالبية العظمى من الحالات، لا توجد إجابة أخلاقية واضحة وصحيحة تمامًا، وهذا هو الهدف من الفلسفة، ومن الأخلاق كونها تخصصًا فرعيًا يندرج تحتها: مساعدتنا في التوصل إلى مجموعة من المبادئ الأساسية، وتطوير أدوات التفكير الناقد التي تمكننا من اتخاذ أفضل القرارات عند مواجهة مثل هذه المعضلات الأخلاقية.

يُقدم موقع على الإنترنت محاكاة لمعضلة القطار، مع عددٍ من السيناريوهات التي بإمكانك أن تختار أيًا منها، ليوضح لك في النهاية مدى اقتراب أو ابتعاد قراراتك عن قرارات الآخرين. قد تظن أن هذا الموقع (وغيره من المواقع المماثلة) قد استعان بباحثين متخصصين في فلسفة الأخلاق، وقد يكون هذا صحيحًا جزئيًا، لكن المحاكاة في مجملها من تصميم باحثين متخصصين في الذكاء الاصطناعي، وهدفها “تكوين صورة جماعية للرأي البشري حول كيفية اتخاذ الآلات للقرارات عند مواجهة معضلات أخلاقية”، بقصد استخدام هذا النموذج لدعم عملية صنع القرار في السيارات ذاتية القيادة.

هذا أمر منطقي تمامًا، لأنه مع انتشار السيارات ذاتية القيادة الموجهة بالذكاء الاصطناعي، تتخذ السيارات بالفعل قرارات مستقلة بشأن ما يجب فعله عندما تسوء الأمور، مثلًا: ما الذي يمكن للسيارة أن تفعله في مواجهة القرار بين ضرب طفل في ممرٍ للمشاة مقابل رجل عجوز على كرسي متحرك؟ وماذا عن ضرب الطفل مقابل الانحراف والاصطدام بالحائط، مما قد يؤدي إلى إصابة ركاب السيارة أو قتلهم؟ وهل يجب على السيارات ذاتية القيادة حماية سلامة ركابها قبل كل شيء؟ أم يجب أن تكون الأولوية لتقليل الإصابات البشرية حتى ولو على حساب الركاب؟ هذه هي الأسئلة التي يطرحها صانعو السيارات لأول مرة في تاريخ الصناعة، وقد أنكر بعضهم هذه المشكلة، مشيرين إلى أن السيارات ذاتية القيادة يجب أن تقلل كثيرًا من عدد الحوادث على الطريق، ومجرد إبطاء السيارة عند مواجهة حادث محتمل يحل المشكلة. لكن الموجة الأخيرة من حوادث السيارات ذاتية القيادة الناجمة عن الفرملة المفاجئة تدحض ذلك، وقد استدعت شركة تسلا في نوفمبر من سنة 2022 نحو 12000 سيارة بسبب احتمال وقوع حوادث نتيجة “الكبح المفاجئ” في أوضاع القيادة الذاتية بالكامل!

النقطة المهمة هنا أن حتمية اتخاذ الآلات للقرارات تضع البشر مباشرةً وراء عجلة القيادة، عندما يتعلق الأمر بتحديد القواعد والمقايضات المقبولة للقرارات الأخلاقية المعقدة. وكما يعلم أي دارس الفلسفة و/ أو الأخلاق، لا توجد خوارزمية يمكننا اللجوء إليها لاتخاذ هذه القرارات بموضوعية. ورغم كمَّ التوقعات المُبشرة بشأن مستقبل الذكاء الاصطناعي التوليدي، لا يمكن للتكنولوجيا بحال من الأحوال أن تحل مستقلة هذه الأنواع من المشكلات التي تحفل بها حياتنا!

مع ذلك، لو عُدنا إلى المعضلة السابقة، لا يمكن للعربة ذاتية القيادة أن تُذعن لمن يتعامل معها بشريًا، ولا يمكن أن تنتظر الإجماع أو موافقة الأغلبية على القرار، بل يجب أن تعمل على أساس مجموعة محددة مسبقًا من القواعد، وفي ظل هذه الظروف، حتى التقاعس عن العمل يغدو قرارًا له عواقبه!

نستطيع القول إذًا أن مباحث الفلسفة والأخلاق والتفكير النقدي ستؤدي دورًا كبيرًا في عالم يؤدي فيه الذكاء الاصطناعي دورًا كبيرًا بالمثل في الأنشطة البشرية، سواء كنا بإزاء قرارٍ بإطلاق صاروخ، أو انحراف سيارة، أو حتى استخدام اختصارات مثل ق. م (قبل الميلاد) في ورقة بحث تاريخية! وبعبارة أخرى، الذكاء الاصطناعي كان وسيظل في المستقبل المنظور يعتمد على قواعد العمل التي يوفرها البشر. وقد يبدو صادمًا أن شركات مثل جنرال موتورز وتسلا تُوظف الآن متخصصين في مجالي الفلسفة والأخلاق!

دعنا نتحدث عن كتابة أكواد البرمجة (Coding). في سنة 2018، كان ما يُقدر بنحو 1.5 مليون وظيفة شاغرة في مجال التكنولوجيا في الولايات المتحدة وحدها. كانت الغالبية العظمى منها وظائف كتابة أكواد على مستوى المبتدئين، وقد سارعت بعض شركات البرمجة مثل “تريولوجي” (Trilogy)، والمؤسسات التعليمية مثل “فلاتيرون” (Flatiron) والمواقع التفاعلية مثل “كودأكاديمي” (Codeacademy)، بالإضافة إلى الكليات والجامعات التقليدية، إلى محاولة ملء الفراغ بتقديم دورات تدريبية مكثفة لمساعدة الطلاب غير التقنيين على اكتساب المهارات التي يحتاجونها للعمل في مجال التكنولوجيا الرقمية، مع التركيز على مهارات كتابة الأكواد ولغات البرمجة والخوارزميات وعلوم البيانات.

لكن “الكود” ذاته يُنشأ الآن –وبتزايد– باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي. خذ مثلًا برمجيات تشغيل أنظمة القيادة الذاتية الخاصة بشركة تسلا، والتي يرجع فضل إنجاز الجزء الأكبر منها إلى عالم الحاسوب السلوفاكي – الكندي “أندرج كارباثي” (Adrej Karpathy من مواليد سنة 1986)، المعروف على نطاق واسع باعتباره رائدًا بارزًا في علوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي، وأيضًا أحد الأعضاء المؤسسين لشركة “أوبن إيه آي” (OpenAI)، الشركة المنتجة لبرنامج شات جي بي تي، ففي تغريدة له بتاريخ 30 ديسمبر 2022، ذكر “كارباثي” أن 80٪ من أكواده تُنتج (وبدقة تصل إلى 80٪) باستخدام “جت هاب كوبايلوت” (Github Copilot)، وهو روبوت ذكاء اصطناعي مُولد، يكمل الكود تلقائيًا بذكاء، ويمكنه إنشاء دوال كاملة وليس مجرد تكملة للكلمات أو الجمل. وعلى حد تعبير “كارباثي”: “أنا لا أكتب الكود بالفعل، أنا مجرد مُحرر، أحث الروبوت على كتابة الكود”! أو كما قال بتعبيرٍ أكثر بلاغة في تغريدة بتاريخ 23 يناير 2023: “إن اللغة الإنجليزية هي اللغة الأكثر رواجًا في البرمجة الجديدة”، بمعنى أنك لست في حاجة إلى تعلم لغات البرمجة لكي تُنشئ كودًا، فقط اطلب ذلك من الروبوت باللغة الإنجليزية!

الشيء الأهم في هذا الصدد أن قيام المُبرمج البشري أو الروبوت بكتابة كود مُعين يستلزم ما هو أكثر من مجرد الأمر البسيط، كأن تقول له مثلًا: اكتب لي كودًا بلغة “بايثون” (Python)، إحدى لغات البرمجة، لكي تظهر على الصفحة الرئيسة لموقعي جُملة “مرحبًا بالعالم” (Hello World)، هنا لا بد من أن يكون المُبرمج أو الروبوت مُلمًا مثلًا بماهية الموقع أو المدونة أو التدوينة التي أعمل على إنشائها، كما يستلزم فهمًا عميقًا لما هو ضروري لتحرير النص أو حذفه. هذه هي المفاهيم المُسبقة التي يمكن أن نتوقعها من مُبرمج يتمتع بمستوى تدريبي مميز، لكنه حتى الآن ليس شيئًا نتوقع أن يفهمه الحاسوب، وإن كان في طور التطوير!

نعم، يستطيع “جي بي تي” أن يُنشئ لك كودًا مُعقدًا أو ورقة بحثية متخصصة في أقل من دقيقتين، كما يستطيع أن يكمل المهام كافة في دورة تدريبية نموذجية لأكثر من 200 ساعة في أقل من ساعة! ويعني ذلك ببساطة أن العالم لن يكون في حاجة إلى مبرمجين بشريين على الإطلاق في غضون خمس سنوات على الأكثر (باستثناء الفئة ذات المستوى الأعلى)! ليس ذلك فحسب، بل ولن يكون في حاجة إلى كُتاب للنصوص، أو وكلاء للسفر، أو مترجمين، أو محاسبين، أو مدرسين، أو مُحللي بيانات، أو حتى متخصصين في الدعم الفني، فكل هذه المهن مُهددة بالتقلص، وربما بالتلاشي أمام قطار الذكاء الاصطناعي المنطلق بلا هوادة! ومع ذلك ستزداد قيمة وأهمية اتخاذ القرار الأخلاقي، والأهداف الاستراتيجية، وبالتأكيد: الرؤي الفلسفية المستقبلية والتفكير الناقد، لأن مخرجات هذه العناصر ستكون الوقود الحيوي للاقتصاد المدفوع بالذكاء الاصطناعي، وكذا لتطوير الذكاء الاصطناعي ذاته وتحسينه بمرور الوقت.

على أن هذا لا يعني أن المدارس والجامعات والمؤسسات التعليمية والتدريبية لم يعد لها هدف، لكنها يجب أن تُعيد حساباتها وتعمل على الارتقاء في سلسلة القيمة، فالبرامج التي تركز على إدارة المنتجات والتسويق، وتصميم واجهات الدماغ والحاسوب، وعلوم البيانات، ومبيعات التكنولوجيا، وحتى القيادة التنفيذية، سيكون لها قيمة كبيرة في اقتصاد يحركه الذكاء الاصطناعي، وسيظل الطلاب بحاجة إلى إتقان المهارات الفنية والبحثية، لتعزيز قدراتهم على التفكير النقدي واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي بطرق هادفة.

لا شك أن تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي يمكن أن تُساعدنا في إيجاد حلول لقضايانا المُلحة، فقط إذا قمنا –نحن الجنس البشري– بتزويدها بوضوح بالمشكلات التي نحاول حلها بالفعل، والمواقف التي يكون الحل مقبولًا فيها. لا شك أيضًا أن “جي بي تي” يمكنه بسرعة حل مُعضلة القطار، إذا أخبرناه أن المشكلة التي نحاول حلها مثلًا هي المساواة العرقية، أو تعظيم الناتج المحلي الإجمالي، أو طول العمر، أو الانسجام المجتمعي. لكن ربما لا تتوافر حتى الآن الرغبة الجدية في اتخاذ مثل هذه الأنواع من القرارات الأخلاقية كونها جزءًا من خارطة طريق “جي بي تي”!

مقالات ذات صلة:

الأبعاد المنطقية للذكاء الاصطناعي

العقل كبرمجيات حاسوبية

خلّي بالك كويس لازم متلازمة رد الفعل

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية