مقالات

الفلسفة والرقص والزمن! .. الجزء الأول

«الفلسفة نشاطٌ عقلي وحسي يُشكله إيقاع التاريخ، يستكشف الحالة الإنسانية، ويبحث عن المعنى عن طريق الحركة، ويتجسد في لحظة من الحرية»

بعد وقت قصير من انتحار راشيل بيسبالوف (Rachel Bespaloff 1895 – 1949)، نشر صديقها الفيلسوف الفرنسي جان وال (Jean Wahl 1888 – 1974) مقتطفات من مشروعها الأخير غير المكتمل “اللحظة والحرية” (The Instant and Freedom،) وهو عملٌ يشمل موضوعات مكثفة شغلت الفيلسوفة الأوكرانية الفرنسية طوال حياتها: الموسيقى والإيقاع والجسد والحركة والوقت. إحدى أفكار بيسبالوف الرئيسة في هذا العمل هو “اللحظة”، تلك التي لم تفهمها بوصفها جزءًا من المدة بقدر ما هي حدثٌ يغير الحياة، لحظة تحول متجسد في خضم عالم صاخب، ممزق بين الزوال والخلود، يستمع منه الإنسان إلى صوت التاريخ. ولو أنها أكملت الكتاب ونشرته، لربما أصبح تحفة أحد المفكرين الوجوديين الأوائل المهمين، على حد تعبير إيزابيل جاكوبس (Isabel Jacobs) الباحثة في الأدب المقارن بجامعة كوين ماري في لندن (Queen Mary University of London)، في مقالها المنشور في ديسمبر 2023 تحت عنوان “الرقص والزمن” (Dancing and Time)، وحاولت فيه إماطة اللثام عن فلسفة بيسبالوف وأهم المحطات الفكرية في حياتها، وهو ما نعرضه تفصيلًا في هذا المقال.

كانت بيسبالوف مفكرةً لامعة وأصيلة، وكانت من بين الموجة الأولى من الوجوديين في فرنسا. أعجب بها ألبير كامو (Albert Camus) وجان بول سارتر (Jean-Paul Sartre) وجابرييل مارسيل (Gabriel Marcel). كانت راقصة ومصممة رقصات محترفة، تضبط آذانها بدقة لموسيقى الكتابة الفلسفية. الفلسفة بالنسبة إلى بيسبالوف نشاطٌ ديناميكي وحسي للاستماع إلى أصوات الآخرين والتفاعل معها، بما في ذلك أولئك الذين ماتوا منذ زمن طويل. وفي حواراتها عبر مؤلفاتها مع هوميروس (Homer)، وكيركجارد (Kierkegaard)، ونيتشه (Nietzsche)، وهيدجر (Heidegger)، وجدت صوتها الخاص. ثمة تصور أصيل للزمن في قلب عالم بيسبالوف يصوغه التجسيد (Embodiment) والموسيقى: فما اللحظة سوى وقفة صامتة تعلق إيقاع التاريخ المتكرر، وعبر أجسادنا، نختبر هذا الانفصال عن التاريخ بوصفه لحظة قصيرة من الحرية.

كانت حياة بيسبالوف مثل رقصة التانغو، تُشكلها الاضطرابات. وُلدت في أوروبا الشرقية، وعايشت أهوال الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية، وكان جسدها بالنسبة إليها ملجأً للمرونة، وروحها دورانًا متحديًا ضد القمع. لم يكن الجسد كما فهمته محض سفينة، بل كان ساحة معركة قاتلت فيها من أجل الأصالة، كل خطوة، كل قفزة، كانت بمقام إعلان لحقها في الوجود والشعور، وأن تكون إنسانة كاملة. وعلى عكس فلاسفة الكراسي، لم تفكر في الحياة فقط، بل رقصت فيها، لم يكن فنها محض ترفيه، بل كان استكشافًا للحالة الإنسانية، وبحثًا عن المعنى عن طريق الحركة. الفرح والحزن لديها وجهان لعملة واحدة: لم تكن تخشى الطيف الكامل للتجربة الإنسانية، لقد احتضنت الفرح بتخلية بهيجة، لكنها واجهت أيضًا الحزن بنعمة رواقية، ما يثبت أن ثراء الحياة يكمن في نسيجها بأكمله.

ربما تأثرت بمعاصرتها الأكثر شهرة سيمون فايل (Simone Weil 1909 – 1943)، التي استخدمت جسدها للتعبير عن فلسفتها، إذ جوَّعت نفسها في النهاية حتى الموت تضامنًا مع أصدقائها ومواطنيها في فرنسا المحتلة. شاركت بيسبالوف ابنة موطنها فايل في اهتمامها بالانتباه والاستماع والانتظار كونها ممارسات صوفية للجسد، فالفلسفة بالنسبة إلى كلتا المفكرتين تجسيدٌ وجودي لأفكارهما، لكن بيسبالوف لم تستخدم جسدها سلاحًا ضد نفسها، بل كانت مهتمة بالرقص بوصفه كيمياء إبداعية للحركة، إذ ترتبط فلسفتها بالجسد ارتباطًا وثيقًا بتجربة الزمن: إن وجودنا اليومي المتجسد هو الذي يقيس الوقت ويعطيه إيقاعًا. وفي مقالها “عن إلياذة هوميروس” (On the Iliad) الذي كتبته في أثناء الحرب العالمية الثانية، استحوذت بيسبالوف على تجربة العيش في ظل أهوال المنفى والحرب: إن الإنسان المقيد بزمنه بسبب الفوضى وسوء الحظ، يكتسب تصورًا جديدًا لزمن وجوده!

حياة بيسبالوف مليئة بالنزوح المتكرر، فقد انتقلت من أوكرانيا إلى سويسرا، ومن باريس إلى جنوب فرنسا، إلى ماونت هوليوك (Mount Holyoke) عبر نيويورك. ولدت سنة 1895 في نوفا زاغورا (Nova Zagora) في بلغاريا (Bulgaria) لعائلة يهودية أوكرانية، وأمضت طفولتها في كييف ثم في جنيف، حيث انتقلت العائلة سنة 1897. وكانت والدتها ديبورا بيرلماتر (Debora Perlmutter) فيلسوفة تُدَرِّس في الجامعة. أما والدها، دانيال باسمانيك (Daniel Pasmanik)، فقد كان جراحًا، ومنظّرًا رائدًا للصهيونية (Zionism) في الإمبراطورية الروسية. كان باسمانيك مناهضًا متحمسًا للبلشفية (Anti-Bolshevik)، وحارب في صفوف الجيش الأبيض في الحرب الأهلية الروسية. وفي سويسرا، درست بيسبالوف (راشيل باسمانيك Rachel Pasmanik آنذاك) البيانو والتأليف في المعهد الموسيقي، والفلسفة في الجامعة، وعلم قياس الإيقاع (Eurhythmics) مع مبدع الموسيقى الحركية السويسري إميل جاك دالكروز (Émile Jaques-Dalcroze)، إذ تتشابك مجالات الدراسة الثلاثة هذه في فلسفتها الوجودية للتجسيد.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في أوائل سنة 1919، أُرسِلت بيسبالوف، وهي الطالبة المفضلة لدى دالكروز، للعمل في فرنسا، وبدأت في تدريس الرقص الإيقاعي (Eurhythmics) في أوبرا باريس، في حين كانت تنشر أيضًا نصوصًا قصيرة عن الرقص والزمن، لقد آمنت بأن الإحساس الحقيقي بالزمن المفقود في الحداثة لا يزال كامنًا تحت جلدنا. وفي سنة 1921، اضطلعت بيسبالوف بتصميم رقصات مشهد الصيد الملكي (Royal Hunt) في أوبرا هيكتور بيرليوز (Hector Berlioz’s Opera) “أحصنة طروادة” (The Trojans)، وهو ما أشارت إليه في مقالها عن الإلياذة. وفي كتابها “الرقص والرقص الإيقاعي” (Dance and Eurythmics (1924 أكدت بيسبالوف أن الرقص عالم: «له مفرداته، ولغتة الثابتة، ومنطقه الخاص، واحتياجاته. إن العمل الفني نظام هذا الكون، إذ يحول الحركة إلى تجارب وجودية. وعن طريق مرونة أجسامنا، يمكننا الوصول إلى أشكال جديدة من الوجود». وفي جزء تحت عنوان “جدلية اللحظة” (The Dialectic of the Instant)، وصفت «بيسبالوف» الوعي الزمني بأنه: «ليس سوى طريقة معينة لفهم العلاقة بين التناهي واللا تناهي في اللحظة. إن قِصر اللحظة يوجهنا نحو الاستمرارية المفقودة التي يمكن استعادتها». وعن طريق الموسيقى والرقص، اكتشفت بيسبالوف ما أطلقت عليه اسم تجربة “السحر الباطني” (Magic Interiority)، إذ يؤدي إضفاء الطابع الخارجي على الحركة، إلى إغراق موضوع الإيقاع في تجربة داخلية مثيرة.

سنة 1925، التقت بيسبالوف بمعلمها المهم الثاني، الفيلسوف الوجودي اليهودي ليف شيستوف Lev Shestov 1866 – 1938))، وُلد في كييف باسم يهودا ليب شفارتسمان (Yehuda Leib Shvartsman). غيَّر اللقاء حياتها، قررت مصممة الرقصات أن تصبح فيلسوفة! كانت هذه خطوة جذرية، لكنها بحلول ذلك الوقت كانت قد تزوجت من رجل أعمال أوكراني، مما سمح لها بترك وظيفتها في الأوبرا، وبعد مدة وجيزة أنجبت ابنتها منه. كان شيستوف شخصية مركزية في الحلقات الفلسفية للمهاجرين في باريس في زمن ما بين الحربين العالميتين. صحيح أن الوجودية الفرنسية قد اكتسبت شهرتها في وقت لاحق من أعمال سارتر وكامو، إلا أن سارتر في الحقيقة كان مدينًا بشدة لتوليفة شيستوف الأصلية لكل من نيتشه وكيركجارد ودوستويفسكي واللاهوت اليهودي.

جذبت كاريزما شيستوف وفكره غير المنظم الفلاسفة الشباب، ومن بينهم الفيلسوف الفرنسي جورج باتاي (Georges Bataille 1897 – 1962)، من نواحٍ عديدة، وكانت حلقة شيستوف معقلًا للوجودية الفرنسية. وفي معية الشاعر الروماني بنيامين فوندان (Benjamin Fondane) كانت بيسبالوف في مركز صالون شيستوف. وصفها صديقها دانييل هاليفي (Daniel Halévy) وهي تجلس على أريكة شيستوف بلا حراك تمامًا، بأنها: «كانت تستمع بشخصها بالكامل: بيديها، بشفتيها، بعينيها». لقد كانت واحدة من النساء القلائل في الدائرة، وسرعان ما أصبحت صديقة لكل من الكاتب الفرنسي الوجودي جابرييل مارسيل (Gabriel Marcel)، واللاهوتي اليسوعي جاستون فيسار (Gaston Fessard)، اللذين أعجبا بعملها. كانت الفيلسوفة في الثلاثينيات، على حد تعبير الشاعر والكاتب الروائي أوليفييه سالازار فيرير (Olivier Salazar-Ferrer): «تشبه إلى حد ما امرأة من القرن التاسع عشر ترتدي ملابس الرجال». ومع ذلك، سرعان ما ارتدت بيسبالوف ملابسها الخاصة. وفي سنة 1929، تناولت العشاء مع الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل (Edmund Husserl) الذي هاجمت ظواهريته بثقة بحجج شيستوفية.

أثارت بيسبالوف ضجة أخرى حين نشرت عملها “عن هيدجر: رسالة إلى دانييل هاليفي” (On Heidegger: Letter to Daniel Halévy) سنة 1933، إذ كان من بين أولى المناقشات بشأن فكر مارتن هيدجر في فرنسا. كانت بيسبالوف، التي تُجيد اللغة الألمانية، قد قرأت كتاب هيدجر “الوجود والزمان” (Being and Time 1927) في صيف سنة 1932، وكتبت أن عظمة هيدجر تكمن في أنه: «يضع نفسه في ما لا يقبل الانفصام (Inextricable)، فهو لا يريد أن ينفصل عن نفسه. وكما هو الحال مع الرقص الإيقاعي، تقترح فلسفة هيدجر تشابكنا اليائس مع العالم». وليس من الصعب أن نتخيل سارتر البالغ من العمر ثمانية وعشرين عامًا ينجذب إلى رسالة بيسبالوف، إذ كتبت بحماس: «الوجود يُجسد نفسه في الممكن: الاختيار هو مصيره». إن هذا الاختيار بالنسبة إلى بيسبالوف، وهي تُفسر هيدجر، ليس أمرًا مهمًا يقع في صميم الإرادة الحرة، لكن في قلب الالتزام الذي لا رجعة فيه. وعن طريق الاختيار النشط، فإننا ننطلق إلى ما هو أبعد من أنفسنا، نحو مستقبل لا يتسم باليقين (Uncertain Future).

يتبع…

مقالات ذات صلة:

موسيقى الفلسفة

ما بين العقل والإرادة

عن أصل الفلسفة أتحدث

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية