فن وأدب - مقالاتمقالات

الغزل العذري وتصحيح الصورة النمطية للعرب .. الجزء الأول

نشأت وشاعت ورسخت صورة نمطية للعربي في جانب من الثقافة الغربية فرسمته على أنه –في الغالب الأعم– ذلك الشخص النزق الشهواني، الشره إلى الطعام والجنس، وكل لذة جسدية يغرق فيها حتى ناصيته، سائرًا في أرض تضج بالجواري والغلمان، ومستمرئًا الغدر بغيره من الرجال، والاستعلاء على المرأة والنظر إليها من طرف أنفه، واعتبارها مستباحة في الحروب بين القبائل حيث الخطف والسبي والاسترقاق، وكذلك في الفتوحات.

احتلت هذه الصورة جزءًا من الخلاصات التي انتهى إليها مستشرقون، وتسربت إلى مناهج التعليم هناك، وصار بعضهم يتعامل معها في الغرب على أنها حقيقة دامغة، وليست مجرد “إنشاء” حسب تعبير إدوارد سعيد. وفي الوقت نفسه كان لهذا اللون من الاستشراق، المجبول على خدمة مصالح استعمارية واستراتيجيات حربية وسياسية– صوت صاخب غطى على حركة الاستشراق العلمي ومنها تلك التي درست الأدب العربي وتراث المسلمين بإنصاف وتجرد.

الصورة النمطية الواقرة في نفوس الغربيين وأذهانهم، متكئة على ما تهادى من القرون الوسطى من حكايات عن سحر الشرق وعوالمه الغريبة، المبثوثة في نصوص عريضة على رأسها “ألف ليلة وليلة”، وكثير من كتب الفقه وحوليات التاريخ والأدب، وبذا فإنها لا تنشأ من عدم ولا تؤسس نفسها على التقولات والتخرصات والأوهام، إنما لها ما يبررها، فتراث العرب مفعم بحالات تؤدي إلى هذا الدرب في سهولة ويسر، لكن الحيف أن نعتقد في أن هذا كل شيء، وليس هناك أمر آخر غيره.

هذا الذي يمكن أن يكون غيره لا يبتعد –بأي حال من الأحوال– عن مسارين أساسيين: التصوف، والشعر المعبر عن الحب العذري. ولأن الأول قتل بحثًا لدى المستشرقين في اندهاشهم منه، سواء لطاقته الروحية العميقة أو بلاغته الظاهرة، فإن الثاني –على رقة حاله– لم ينل حظًا من التناول الذي يضعه برهانًا على أن العرب في الجاهلية أو بعد الإسلام لم يكونوا غارقين في الحس تمامًا مثلما صورتهم بعض الرؤى الغربية المتحيزة.

قد يكون عدم التفات الغرب إلى هذه المزية هو ما فعلته الثقافة المسيحية في دعوتها التي تربط الارتقاء الديني بتقييد الحسي، بل قتله أحيانا، فالرهبنة التي هي لديه تعد ذروة الامتثال الديني أو الخضوع الإيماني، تقوم على منع اللذة الجنسية وتقليل اشتهاء الطعام. وبذا فإنه قد يبدو عاديًا بالنسبة إلى الغربي أن يتحرق عشاق العرب شوقًا إلى الحبيبة هائمين بحضورها الروحي والرمزي وليس الجسدي، ففي هذا امتثال ورضوخ، وليس تمردًا وخروجًا يلفت الانتباه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ربما لهذا ربط بعض المستشرقين بين العذرية عند العرب والتأثر بالمسيحية وقبلها الحب الأفلاطوني. وفيما يميل ماسينيون إلى الأخير، نجد دوزي يعزو آراء ابن حزم الأندلسي إلى جذره المسيحي، إذ كان أجداده يعتنقون المسيحية قبل أن يسلموا، ويزعم هنا أن الجنس العربي لا يعرف سوى الحب الحسي، ويتفق أثين بلاسيوس مع مسألة التأثر بالمسيحية، ويرى أن هذا واضح في قبيلة بني عذرة.

وما يفند هذا التصور أن الشعر الغربي نفسه لم يشهد حضور المسار العذري بهذه القوة التي كانت لدى نظيره العربي، فحركة الأدب الغربي عمومًا، وفي قلبها الشعر، كانت متمردة على تقاليد القرون الوسطى التي تحالفت فيها الكنيسة مع السلطة السياسية، ولذا كان من الطبيعي أن ينشغل الشعر بالجانب الحسي المكبوت، فيفجره وينتصر له، كونه حاجة إنسانية ملحة وضرورية، وهي مسألة انعكست أيضًا على الفن التشكيلي بمختلف مدارسه.

على النقيض من الشعر العذري، الذي قلت دراسته أو أُهمِل مقارنة بغيره من الغزل، فإن الصورة الحسية للعرب والمسلمين ركزوا عليها، وأفرطوا في رسم ملامحها وتوصيفها، ربما لتوظيفها على درب التمرد على الدعوات الروحانية الخالصة التي كان رجال الدين المسيحي يلحون عليها، ويملأون بها آذان الناس ليل نهار.

لكن التركيز عليها، والنفخ فيها زاد من وجودها، كأنها خاصة بالعرب، أو كأن ما جاء في كتب مثل “الأمالي” لأبي علي القالي، و”الإمتاع والمؤانسة” لأبي حيان التوحيدي في شأن هذا الجانب الحسي– هو كل شيء، بينما يتغافلون عن الجانب الروحاني في كتاب “طوق الحمامة” لابن حزم الأندلسي، وهو من أهم ما كتب في العشق بين رجل وامرأة في تاريخ العرب والمسلمين، بل يتعدى هذا لتكون له مكانته على مستوى تاريخ الحب الإنساني في الدنيا بأسرها، نظرًا لعمقه النفسي وجمعه بين الروحانيات والحسيات.

أيضًا ما أورده الشهرستاني في “الفهرست” عن تقسيم العشاق، وداود الأنطاكي في “تزيين الأسواق في أخبار العشاق”، وابن الجوزي في “ذم الهوى”، والسراج في “مصارع العشاق”، والسيوطي في “نزهة الجلساء في أشعار النساء”، وابن قيم الجوزية في “روضة المحبين ونزهة المشتاقين”، والكسائي في “روضة العاشق ونزهة الوامق” وغيرها.

بالطبع لم تكن حياة الناس كلها مترفة، مثل ما يجري في القصور التي كانت تشهد في كثير من الأحيان أنماطًا من السلوك الحسي المفرط في مجونه، وبعضه كان شاذًا غريبًا، وكذلك في الدوائر الممكنة التي كانت تحيط بالحكم، والمستفيدة من إغداقه، والمتنعمة في بذخه وإسرافه.

الغريب أن تُربَط الصور قسرًا بين “البداوة” و”اللذة” عند الشرقيين، أو هكذا يشيع في مخيلة كثير من أهل الغرب، مع أن الشعر العذري كان أكثر تفجرًا في البيئة الصحراوية، خصوصا الحجازية. فالعربي المستدعى إلى هذا المخيال الشعبي الغربي ليس ابن الأمصار، في مصر والعراق والشام، إنما البدوي بخيمته وإبله وضأنه وخيله وليله، والذي تفجر الرمل تحت قدميه نفطًا، فأمده بمال طائل جعله موصولًا بتراثه الحسي الوسيط.

ربما يعود هذا إلى أن البيئة الصحراوية المفتوحة البسيطة لا تسمح كثيرًا باختلاء بين عاشق ومعشوقه، بحيث تذهب الأذهان إلى التفكير في احتياج الجسد، كما أن التقاليد الصارمة للقبائل تقيد هذا الاختلاء كثيرًا، علاوة على أن الشعراء أنفسهم كانوا مقيدين بها، لارتباطها بمسألة “الشرف”، التي إن انتُهِك أُشهرت السيوف، وأُريقت الدماء غزيرة. كما أن فرص الاختلاط بين الجنسين كانت غاية في الضعف، وهي مسألة دل عليها الشعر، حين أظهر تلصص الرجال على النساء، أو افتعال مصادفات عند آبار الماء وعلى جوانب الخيام المضروبة في الخلاء.

نكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى.

مقالات ذات صلة:

الشعر العربي في خطر

ظاهرة التأثير والتأثر في الفكر الإنساني

الشعر والعِلم

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري