في الجزء السابق من المقال حللنا نظام المجتمع السياسي وقسمنا العوامل التي تؤثر فيه لثلاثة عوامل أساسية: المادة والموارد (عالم الأشياء) ثم التزاحم والتنافس (عالم الأشخاص) وأخيرًا الثقافة والقانون (عالم الأفكار). ورأينا كيف تحول سعي الإنسان من مجرد إشباع رغباته إلى تنظيم عملية الموارد والاستهلاك ثم إلى السعي نحو النظام الأمثل لهذا الكيان الاجتماعي السياسي. تلى ذلك عرض تفصيلي لإحدى تلك المحاولات التنظيمية والتي سنعطيها عنوان النظرة المادية أو النفعية للاجتماع السياسي. ونحاول هنا في هذا الجزء أن نُفنّد تلك النظرة فلسفيًا لنغطي كل جوانبها. فإذا نجحت تلك النظرة في الاختبار الفلسفي لزم أن نتخذها طريقا سليما وفعالا في تنظيم المجتمع وفي تعريف الحدود بين الحقوق والواجبات، وتنسيق التزاحم والموارد في منظومة تحقق #العدل_الاجتماعي والسعادة للإنسان في النهاية. ولزم أيضا -من هذا النجاح في ذلك الاختبار الفلسفي- أن نترك كل محاولة أخرى (كالنظام الإسلامي مثلا) تسعى للوصول لصورة النظام الأمثل للمجتمع وتطبقه في الواقع؛ لأننا بكل بساطة قد وصلنا بالفعل للنظام الذي يحقق هذا الهدف دون أي خلل فكري أو فلسفي فيكون مصدر الخطأ في التطبيق فقط لا في التنظير. أما إذا فشل في الاختبار، فيمكن لنا إذن أن نتجه نحو النظم الاجتماعية الأخرى؛ لنحللها ونحدد أيها أصلح لإنشاء النموذج الاجتماعي الأمثل.
وسنبدأ في اختبارنا الفلسفي للنظرة المادية للوجود بالتفنيد الفكري والمعرفي. فالنظام المادي بنى نظرته على أساس أن الوجود هو الوجود المادي فقط وأن الحس والتجربة المادية يشكلان أساس المعرفة الإنسانية. فلا معرفة خارج إطار المادة والتجربة.فالآداة المعرفية الأصيلة هي الأداة المعرفية التي يستحيل تحصيل أي معلومة إلا بالاستعانة بها فهي إن لم يكن لها دور كافي في التحصيل فإن دورها ضروري على التقدير الأدنى (قد لا تكفي وحدها لكن يستحيل الاستغناء عنها). وهنا لابد من أن ننظر لحقيقة #التجربة التي يطالبنا الغرب وأعوانه أن نؤمن بها ونثق فيها كمصدر أصلي لكل معارفنا ومداركنا. ما هي التجربة؟ إن التجربة هي تكرار المشاهدة الحسية لعينات متماثلة تحت ظروف مختلفة. فتبدأ عملية تجميع وتحضير العينات بطريقة محددة، ثم عرض العينات للظروف المختلفة المحددة والمقاسة لمشاهدة أو مراقبة التغير في العينات. ومن هذا السياق نستطيع أن نرى أن التجربة تنظر في علاقة العلة والمعلول بين الظروف والعينات. فتحاول أن تقيس مدى تأثر العينات عند تغيير المؤثرات أو الظروف بقيمة معينة. فنخرج من التجربة بعلاقات توصيفية كَميّة بين المؤثر والأثر؛ كبيانات يمكن على أساسها استنتاج علاقات ومعلومات عن طبيعة العينات.
نسأل هنا سؤال: ماذا لو أثبتت تجربة ما أن عينة معينة لا تتأثر بمؤثر معين؟ ماذا لو أثبتت التجربة أن شدة الضوء لا تؤثر في تركيز السكر في الماء مثلًا؟ هل يمكن بأي تجربة أن ننفي علاقة العلة والمعلول الكلية؟ بمعنى آخر هل تسقط قاعدة العلة والمعلول في هذه الحالة؟ أم يسقط كون الضوء علة لتغير التركيز مع بقاء قاعدة العلة والمعلول صحيحة؟ (سقوط المصداق مع بقاء المفهوم) إننا لو افترضنا أننا نستطيع أن نصمم تجربة ونستنتج منها فساد قاعدة العلة والمعلول، فإننا في المقام الأول سنخرج باستنتاج من هذه التجربة مفاده أنه ؛بما أننا صممنا التجربة الفلانية، ولاحظنا المقدمات التجريبية المادية العلانية، فإننا نستنتج أن قاعدة العلة والمعلول فاسدة (المقدمات كانت سببا للنتيجة). وبالتالي فالقاعدة التي صممنا التجربة لنفيها قد استعنا بها لنصل للنتيجة! وهذا دور باطل! وكأننا نقول: “قد استنتجنا فساد قاعدة أصل العلية بالاستعانة بقاعدة أصل العلية”. إن مجرد صياغة هذه الجملة هو أمر غير منطقي وهزلي، ناهيك عن الاعتراض عليها بالمقدمات المنضبطة منطقيًا. ومن هذا السرد يتضح لنا أن التجربة يستحيل أن تنفي قاعدة أصل العلية
ولكن نسأل سؤال آخر، هل تستطيع التجربة إثبات تلك القاعدة؟ فنقول للإجابة عن هذا السؤال أن التجربة أيضًا لا تستطيع إثبات قاعدة أصل العلية، أو أننا لا نستطيع أن نصمم تجربة تخرج بنتائج تثبت أصل العلية؛ والسبب في ذلك طبيعة آداة التجربة والتي تعتمد أصلًا على المشاهدة الحسية المتكررة. والتي بدورها لا يمكن تصورها إلا بعد الحكم بأن لكل معلول علة أو سبب، أو أن للمشاهدة الحسية أثر يتسبب فيها. فحتى إذا حاولنا أن نستخدم آداة لإثبات القاعدة التي ترتكز عليها (مهما بدت تلك المحاولة مبتذلة وخاطئة) فإن تحليلها المنطقي هو أن فيها مصادرة على المطلوب. فنحن نشرع في إثبات شيء بطريقة تعتمد في أساسها على صحة المطلوب إثباته. والمصادرة على المطلوب أمر مرفوض عقلًا. وكأننا نقول: “إننا باستخدام المسطرة أثبتنا أن المتر هو 100 سنتيمتر” (المسطرة تعتمد أصلا على تعريف المتر لا العكس). أو” باستخدام قاعدة أن مجموع زوايا المثلث 180 درجة فإننا سنثبت أن مجموع زوايا المثلث 180 درجة”.
بالتالي نخلص إلى أن التجربة لا تستطيع نفي أو إثبات قاعدة أصل العلية. فقاعدة أصل العلية في حقيقتها هي معلومة أو جزء من علم الإنسان. وإن الأدوات الوحيدة التي تبحث في المادة وشؤونها -من أجل استخلاص المعلومات عنها-هي الحس والتجربة. وهذه المعلومة لم تأتِ عن طريق أيًا منهما بأي شكل من الأشكال ( مباشر أو غير مباشر). وبالعودة لمفهوم الآداة المعرفية الأصلية- وهي الآداة التي وإن لم تكن كافية لتحصيل العلم فهي ضرورية فيه- نجد أن معلومة (أصل العلية) تم تحصيلها دون أن تكون التجربة كافية أو حتى ضرورية في تحصيلها. وعليه فتسقط عنها الأصالة المعرفية. بل ويسقط عن الوجود المادي أيضًا كونه الوجود الوحيد، فلا هو ولا الأدوات التي تنظر فيه (الحس والتجربة) استطاعوا الخروج بهذه المعلومة (ليسوا علة تحصيل هذه المعلومة)، فلابد أن هذه المعلومة لها علة أخرى خارجة عن هذا الوجود المادي وأدوات البحث فيه. وبهذين السؤالين نكون قد أسقطنا المنهج المادي (لا الآداة التجريبية) من النظرة المعرفية والوجودية. فلا معرفيًا تصح الأصالة للأدوات التجريية والحسية، ولا وجوديًا ينحصر الوجود على الوجود المادي.
يتبقى لنا في صرح المادية العمود الأيديولوجي الذي بدأ في أساسه عند ما انتهي إليه عامودا المعرفة والوجود. وبمجرد النظر البسيط نرى أن ما ليس له أساس ليس له قوام. ولكن لنضع الحجة الدامغة سنحلل هذا المنحى أيضًا. فالأيديولوجيا تنظر فيما ينبغي أن يكون في نظام الفرد والمجتمع. وهنا نسأل: “هل إهمال وإخراج عامل الوجود اللامادي -الذي ثبت وجوده كما تبين من السرد السابق- من النموذج الاجتماعي يؤثر أم لا؟” وهل تأثيره إيجابي أم سلبي؟
عندما تم وضع النظام الاجتماعي، تم إقصاء الجانب اللامادي (المعنوي) من الاعتبار. وهو المَعني بعالم الأفكار والمعاني. اما إثبات هذا الأمر فله محل كلام آخر. فالنقد أولا هو كيف نتوقع أن نضع نظام فكري (الثقافة والقانون) للمجتمع ومع ذلك نسقط من الإعتبار كون للإنسان وجود معنوي يرتبط ويتفاعل مع وجوده المادي. ثانيًا، الوجود المعنوي هو المنظم الرئيسي والمتحكم الحقيقي في الوجود المادي للإنسان. فنرى رجل الإطفاء يعرف أنه قد يحترق أو يموت خلال إطفائه للحريق، لكن فكرة الشجاعة والإيثار والتضحية لديه تجعله يُسيطر على جسده ويأمره أن يعبر غمار الخطر ليطفئ الحريق وينقذ أخاه الإنسان. ولدينا الكثير والكثير من الأمثلة التي توضح أن الإيمان بالفكرة يعتبر من أقوى المُحفزات التي تشكل تحركات الإنسان نحو تطبيق أفكاره، بل إنه المحرك الرئيسي لسعي الإنسان لتطبيقه فكرته.
القضية الأولى جدلية، تقول أن الرؤية المادية تُسقط عالم المعنى والأفكار من الاعتبار الوجودي والمعرفي بينما تستخدمه في الاعتبار #الأيديولوجي لوضع النظام الاجتماعي. أما القضية الثانية فتحليلية نفسانية تنظر في واقع الإنسان لتصل إلى أن الإدراك والإيمان القوى بالهدف والفكرة هو من أقوى المحفزات للتحرك. وهو مالا تنكره حتى أشرس المؤسسات البحثية المادية في العالم الغربي. الأمر الثالث الذي تجدر الإشارة إليه هو الإعتبار النسبي لهذا الجانب الوجودي والذي تطرقنا له في الجزء السابق للمقال. فإن القول بالنسبية في الأمور الكلية النظرية أو العملية هو قول يناقض نفسه؛ فلا هو بالمطلق فيصدق على نفسه فيسقط، ولا هو بالنسبي فيصح إعتباره أو إهماله. فهو قول فاسد ساقط متلون كالحرباء. وهو سكين الإزدواجية أو العائمية الأخلاقية الذي يطعن به الغرب المادي أعداءه وفي نفس الوقت يشتكي منه ويئن من طعناته إذا ما سُلط عليه. لكن الحق هو القول بأن الخير له مقياس أخلاقي مطلق يحكم به العقل في الكليات ويستعين بالأدوات المعرفية الأخرى ليحكم به في الجزئيات ليحقق السعادة السلوكية الحقيقية للإنسان.
إننا بعد أن أنهينا هذا النقاش نعود لنبرز بعض النقاط الهامة. إن الملاحظ الدقيق لهذا الحوار يتبين له خلوه من قضية أو استدلال ديني واحد. وهذا كان مقصودًا؛ ليس لقصور الدين عن تقديم تلك الاستدلالات ولكن لنبرز أن الإنسانية وحدها، أو عقلانية الإنسان هو مبرر كافي وقوة كافية في حد ذاتها لتكشف فساد النظرة #المادية للوجود ولتبحث عن حقيقة وجود الإنسان. وعليه فإن مقاومة هذا الاستبداد والاستغلال المادي ليس منوطًا بدين دون آخر أو طائفة دون أختها. إن كشف خبث تلك المكيدة المحاكة على البشر هي مهمة إنسانية عامة يكفي لتحمل مسؤوليتها توفر العقل الإنساني فقط قبل أي اعتقاد أو إيمان. يتبين أيضًا أنه إذا ارتضي الإنسان بالسعادة في الدنيا فقط ولم يطلب غيرها فإن هذا الطلب المحدود لن يتحقق إلا بالنظام الاجتماعي الأمثل الذي نسعى إليه. فحتى الملحد أو المشكك لكي يسعد في الدنيا؛ عليه أن يبحث عن الأمثل، وعليه أن يُفرق بين النظام المخادع والنظام الأمثل الحقيقي؛ لا لكي يدخل جنة أو نار (سنسلم له جدلًا أن لا حياة إلا هذه الدنيا) بل من أجل تحقيق هذا الهدف مهما بدا غريبًا وذلك عن طريق التحليل العقلي السليم. وعليه فالعدل والنظام الاجتماعي الأمثل هو رسالة إنسانية عامة يطلبها الجميع! فعلينا ألا نسمح لمستغل أو لمستبد أن يفرق بيننا باسم العرقية أو الإثنية أو الدين ليلهينا عن هدفنا. إن هدفنا العام الشامل هو الوصول للنظام الأمثل. الفارق الوحيد أن بعضنا اتخذه غاية في ذاته بينما البعض الآخر اتخذه وسيلة لشيء ما وراءه (حسب اعتقاده وهذا الاعتقاد له شأن مختلف وحديث آخر(.
الأمر الأخير الذي يجب أن نلاحظه هو وَهن وضعف الحيلة المُحاكة علينا، والتي مهما بدت مفصلة ومتشعبه فهي في هشاشة بيت العنكبوت الذي مهما اتسع وتعقد يبقى في الآخر في مادته واهنًا ضعيفًا لا يحتاج إلا لبعض العقل والتدبر فقط لتدرك مدى الخلل الشنيع والشر الفاضح فيه لتنقضه وتنسفه؛ لتؤسس بدلا منه النظام الأمثل الحقيقي.
#بالعقل_نبدأ