لا شك أن انقسام العالم اليوم وتناحره يعتبر من أخطر ما تواجهه الإنسانية اليوم. فالإنسان لم تتعاظم فقط قدرته على التفكير والبناء بل صاحب ذلك بالضرورة تعاظم قدرته على التدمير والفتك. ولهذا صرنا نرى الانتقامات الإجرامية والتصفيات العرقية في كل حدب وصوب وفي كل قارة تزهق أرواح ملايين البشر في صورة مروعة تخجل ألوان الفنان والعبارات والأقلام أن توصفها. ولذلك نسأل السؤال البديهي: لماذا لا نستطيع أن نعيش في وئام وسلام سويا؟ وقد يظهر من هذا السؤال طابع ساذج للمناقشة التي ستدور لكن على العكس، فإننا سنحاول الإجابة على هذا السؤال بالقدر المتاح الدقة والتحليل لنجيب عليه من وجهة نظر هامة. هل نستطيع أن نقيم النظام الاجتماعي العادل الذي يستوعب كل تلك الإختلافات والفروقات الإنسانية والتي بلا شك أدت لتلك التناحرات والمجازر؟
في أول الأمر بدأ المجتمع بالعائلة الواحدة هذه العائلة بلا شك كانت لا تواجه أزمة التناسق والانسجام التي نواجهها الآن وذلك لبساطة المتطلبات وكثرة الموارد، أي أن التزاحم كان محدودا في هذا النموذج. ومع الوقت وازدياد العدد ظهر التزاحم الظاهري لكن واقعا كانت لا تزال هناك الكثير من البقاع في المعمورة التي لم تطأها أقدام البشر. فبدأت طفرات الهجرة والارتحال بحثا عن حل للتزاحم. ولهذا ففي نموذج الاجتماع السياسي نجد التزاحم والموارد أحد أهم العوامل المحركة لنمط الحياة.
ثم ظهرت طفرات الإنتاج والتصنيع مع تطور الحياة واحتياجات المجتمعات الإنسانية. فأصبح الإنسان لا يهتم فقط بإشباع حاجاته ولكن أصبح يهتم بالكم (وفرة الإنتاج) والكيف (جودة المنتج). فصار يطور في وسائل الإنتاج ليحقق تلك الأهداف الجديدة فيطور في المذاق واللون والملمس والراحة كما يطور في سعة الإنتاج ليستطيع توفير المخزون الإستراتيجي الذي يمكنه من التفرغ لتأسيس مشاريع استراتيجية أخرى أوسع وأهم.
ومع تعاظم تلك الجهود ومن الوهلة الأولى لإدراك الإنسان لحجم مسؤلياته ظهرت أهمية تنظيم العمل الجماعي وفق المسؤوليات (الواجبات) وتلبية الحاجات (الحقوق). فبدأ الإنسان في تقويم نظامه الاجتماعي. فإدراك الإنسان لأهمية التطور (الكم والكيف الإنتاجي) لضمان تلبية حاجاته المادية رسخ عنده أهمية العمل الجماعي (الموارد البشرية) والتي من خلال تنظيمها في منظومة الحقوق والواجبات (الثقافة والقانون) يستطيع أن يحسن كفاءة تلك الآلة الاجتماعية لتحقق أهدافا أكبر باستهلاك أفضل للموارد. وهنا نشير لدقة وحكمة المنظومة الإنسانية والتي حتى وإن انغمست فقط في تحقيق رغباتها المادية فإنها لا تجد بدا من تطوير قدراتها العقلية ومداركها الثقافية لتحقق تلك الغايات.
ولما ظهرت الثقافة والقانون كأداة أساسية تنظم العمل الاجتماعي، تحول هدف الإنسان من البحث عن النظام لمجرد كونه نظام إلى البحث عن النظام الأمثل. فاضطر للدخول في عالم الإنسان ودراسة أحواله وميوله وتضاريس شخصيته ليعرف كيف يوجه طاقات الإنسان بطريقة مثلى نحو تحقيق أهدافه. فأدرك الإنسان بلا شك أن إصلاح مملكة الإنسانية (الدنيا) يبدأ من إصلاح مملكة الإنسان (العقل والأفكار). نجد هذا واضحا في بعض النماذج التاريخية كحكم الفراعنة في التوجيه الأخلاقي والاجتماعي. أو في دستور حمورابي، أو في محاورات سقراط وتنظير أفلاطون للمدينة الفاضلة (النموذج الأمثل في نظر أفلاطون للاجتماع السياسي) أو في شروحات أرسطو وكتبه في هذا الموضوع أيضًا. ناهيك عن الأمثلة الكثيرة والمتنوعة من كافة الأنماط الإنسانية والتي وإن اختلفت في التفاصيل فلقد اتفقت وتواترت جميعها على قاعدة جوهرية واحدة أن تنظيم المجتمع فكريا مفتاح تطور المجتمع ورخائه. وهنا كانت نهاية مطاف الاتفاق والانسجام الإنساني على هذه الحقيقة ومنه بدأت الاختلافات الجوهرية في طريقة الوصول لهذا النسق الفكري الاجتماعي الإنساني.
إن الغايات الإنسانية بلا شك لا تنقسم إلا إلى صالحة خيرة وخبيثة شريرة وذلك من المنظور الأخلاقي. ولما أدرك الإنسان حقيقة الآلة الاجتماعية وقدراتها الهائلة كان من الطبيعي أن تسعى النفوس المريضة والشريرة إلى الإستفادة من زخم حركة تلك الآلة في تحقيق المآرب الفاسدة والأغراض القبيحة. فلجأت عند التنظير للنظام الاجتماعي الأمثل للبحث عن مواطن التأثير في الإنسان التي تحوله لآلة عمياء تنساق وراء قائدها بلا هدى واضح أو رؤية هادفة. وهؤلاء لجأوا لقصر النفس الإنسانية على الغضب والشهوة والوهم، وحاجاته على الحاجات المادية فقط. بينما يقتصر العقل عندهم على العقل الذي يعمل في التجربة والمادة فقط. فأقاموا صرح معرفتهم وثقافتهم على تلك الأسس فقط. فتفكيريا ومعرفيا العقل هو العقل المادي التجريبي فقط. أما وجوديا فلا يوجد غير الوجود المادي ومن حيث القيمة والأيديولوجيا فالإنسان هو مقياس كل شيء حتى الخير والشر. فمصلحة الإنسان المادية هي ما تحدد الخير من الشر والأمر نسبي ويعتمد على تحقيق المنفعة المادية فقط. لماذا؟ نسألهم، لأن هذا ما تستطيع التجربة إثباته فقط فكل ما لا يخضع للتجربة غير موجود أصلا، ولذلك فكل ما يوصل للمادة فهو قائم على المادة ومعتبر أما ما لا يوصل للمادة فهو الوهم والخرافة والاحتياج العاطفي ولا أساس علمي له فلا يدخل في صروح العلم وشروحاته بل يقتصر دوره على المشاعر وخيالات ومكانها خارج إطار البحث العلمي والتنظير الفلسفي. تجدر الإشارة هنا أن هذه النظرة ليست حديثة أو مستهجنة بل هي قديمة وظهرت كنوبات أكثر من مرة على مر التاريخ وفي أكثر من حضارة وربما أكثر من مرة في نفس الحضارة.
وبهذا يضمن النفعي المستغل للآلة الاجتماعية بعض النقاط الهامة التي تؤمن مصالحه. فالإنسان بتلك المنظومة الفكرية لن يشخص سعادته خارج المادة فسيضمن أن كل فرد في المنظومة سيسعى حثيثا وراءها لتسخيرها وترويضها لتخدم الإنسان. هذا ما نراه جليا في الحضارة المادية التي سيطرت تماما وبكل الوسائل على الطبيعة لتسخرها لخدمة الإنسان بلا شفقة أو رحمة أو نظر في استمرارية وبقاء تلك المنظومة. الأمر الآخر أن تلك المنظومة الفكرية تضمن للمستبد أن الآلة الاجتماعية لن تمتلك أي حواجز أخلاقية عند التعامل مع أعدائها. وطبيعي أن أعداء تلك المجموعة هم من يتنافسون معها على الموارد المادية (التزاحم المادي: يجدر الإشارة لتناحر قوى الإستعمار بين بعضها البعض بكل وحشية) أو من ينظرون لأي رؤية أخرى تناقض أو تضاد رؤيتهم (التزاحم الثقافي أو الفكري: ليس فقط الرؤية الإسلامية ولكن كذلك الفلسفات الأمريكية عند سكانها الأصليين والآسويين والأفارقة).
فمع غياب القيمة الأخلاقية أو جعلها في حد ذاتها قيمة عائمة نسبية تعتمد فقط على ما يحقق المنفعة المادية لن تجد المجموعة أي مانع أخلاقي من الفتك في حالة العدوان أو التشدق بنفس المبادئ الأخلاقية التي انتهكتها إذا ما حصل العدوان عليها (تابع تبرير الغرب الاستعماري لكل أعماله الإرهابية على مر العصور ومحاولته التنظير لها ومنطقتها وقارنها مع رد فعلها الأخلاقي والرافض للفتك والعنف عند أي عدوان عليها أو على حلفائها). ولو أراد الناظر السطحي أن يقذفنا بتبرير الإرهاب فإننا نجد عنده خللا، فالرؤية العادلة ترى أن الفتك كل الفتك والهمجية كل الهمجية مكروهة عقلا وخلقا وهذا ما لا يوجد خلاف عليه. أما هدف المناقشة هو توضيح ازدواجية أو عائمية القيم الأخلاقية عند الغرب الاستعماري. فهو يتشدق بالأخلاق أو يهتكها وفق هواه ومصلحته المادية لأنه في رؤيته الأيديولوجية يضع المنفعة المادية فوق الأخلاق والقيم. فالقيم أصبحت مجرد مبرر للأفعال ونتائجها لا نقطة الانطلاق والتوجيه التي تبدأ عندها.
الفائدة الأخيرة التي يحققها المتسبد من تلك النظرة التي (لم نقف لها على دليل دامغ يقومها حتى يومنا هذا بل تفرض علينا فرض الجبر والقوة) هو أنه يجد المبرر لكل أفعاله مهما كانت ملتوية أو فاسدة. فكل شيء عنده مبرر بالنزعات الإنسانية الأساسية التي أسس لها في نموذجه الاجتماعي. فشهوته وغضبه هي كل مايحركه فلا يجد عيبا أو ملامة في إشباع رغباته تلك مهما بدت غريبة أو مستهجنة. فنجد سياسييهم لا يضربون لشبابهم ومجتماعتهم المثل إلا في الفساد الاجتماعي والأخلاقي والسياسي. ولقد كثرت فضائحهم وتنوعت مع الوقت بين الأوروبي والأمريكي حتى فاقت قدرة التصور. فالمجتمع الذي كان ينظر للقائد بنظرة الاحترام والقدوة صار يعرف جيدا أن هذا الوجوه الجامدة الباردة لا تبحث إلا عن إرضاء الوحش اللا-إنساني بداخلها ولن تبخل بجهد لتحقيق ذلك حتى وإن تسبب ذلك في هدم كل الصروح والدساتير الديمقراطية التي أسسوا عليها بنيانهم الفظ. فلا يجدون عيبا في قمع الشعوب حتى وإن كانت شعوبهم، أو قهر الأقليات التي لطالما تشدقوا بالدفاع عنها. أو طرد المهاجرين “غير الشرعيين” بعد أن أنستهم البدل وربطات العنق أنهم كانوا في يوما من الأيام مهاجرين غير شرعيين نهبوا أهل البلاد والقارات بلادهم وثرواتهم واستعبدوهم.
وفي النهاية أسأل وتتساءلون لماذا لا نعيش في سلام سويا؟ إنه حقا شيء عجيب
يتبع..