مقالاتمنطق ومعرفة - مقالات

العلاقة السببية بين الإمكان والضرورة .. الجزء الثاني

ثانيًا: السببية في العصر الحديث

في العصر الحديث أدى تطور فيزياء «جاليليو» و«نيوتن» إلى نشوء فهم للسببية كان في جوهره ماديًا آليًا، وقد تجلى هذا الفهم لدى معظم فلاسفة الحقبة الحديثة، الذين اتفقوا على القول بالسببية مبدأً كليًا طابعه الضرورة، وإن كانت تفسيراتهم لمعنى الضرورة أو مصدرها قد تباينت وفقًا لتباين نزعاتهم الفلسفية.

أول ما يلفت النظر بشأن معالجة الفلاسفة المحدثين لمقولة السببية، أنهم جميعًا حاولوا الإجابة عن السؤال الإبستمولوجي لـ«ديكارت»: كيف أعرف؟ فلقد جعل «ديكارت» من هذا السؤال أساسًا لأية معرفة يمكن أن تكون واضحة ومتميزة، ورغم أنه كان يعني بذلك الكشف عن المصدر الحقيقي لأفكارنا، أو لتصوراتنا المألوفة مثل المكان والزمان والسببية، فإن سؤاله ينطوي في الحقيقة على سؤالين منفصلين: سؤال عن التصور، أو المعنى العقلي له، وآخر عن تطبيق التصور، أو التعريف الإجرائي له في عالم الواقع. وبينما اهتم العقلانيون بالإجابة عن السؤال الأول، نجد التجريبيين قد انشغلوا بالإجابة عن الثاني. ولعل هذا هو المنشأ لما ندعوه بمشكلات الزمان والمكان والسببية. وهاك بعض النماذج التي توضح ذلك.

«فرنسيس بيكون» (F. Bacon 1561-1626)

لن نقف طويلًا عند «بيكون»، ذلك أن قوله بالسببية وضرورتها لا يستند إلى مناقشة أو برهان، وإنما نشير إليه بإيجاز كونه رائدًا من رواد النزعة التجريبية في العصر الحديث، فلقد حاول إحياء العلوم، أو بالأحرى نفض ما علق بها من غبار الميتافيزيقا اليونانية، فربط التسبيب (Causation) بالاستقراء (Induction)، على ألا يكون السبب سوى ما دعوناه من قبل بالصورة (Form). وهو إذ يستبعد المادة والحركة والغاية من قائمة الأسباب الأرسطية، يفهم الصورة بمعنى مختلف عما قصد إليه «أرسطو»، فالصورة عند «أرسطو» تُعبر عن «ماهية الموجود» المتحققة بخروجه من القوة إلى الفعل، أما عند «بيكون» فهي «ماهية الكيفية»، إذ كان يعتقد أن بالكون عددًا من الطبائع الخفية، تجتمع وتفترق بنسب متفاوتة، فتتكون الأشياء الجزئية. ولا سبيل إلى فهم الطبيعة وحتميتها إلا باستكشاف صور تلك الطبائع أو الكيفيات، لا عن طريق العقل، وإنما بمواجهة الظواهر تجريبيًا. وكما نلاحظ فإن اعتقاد «بيكون» بالطبائع الخفية لا يخلو من نزعة ميتافيزيقية تناقض صيحات الرفض التي أطلقها ضد مذهب «أرسطو».

«جون لوك» (J. Locke 1632-1704):

كان «لوك» أعمق من «بيكون» في توضيح المذهب الحسي، والدفع به ضد مذهب «ديكارت» القائل باحتواء العقل على أفكارٍ فطرية تتسم باليقين، فالخبرة أو التجربة عند «لوك» هي المصدر الوحيد لأفكارنا. ولدينا نوعين من التجارب: «الإحساس» (Sensation) الذي يعطينا أفكارًا بسيطة عن الصفات الحسية مثل الروائح والطعوم والألوان، والاستبطان (Introspection) وهو إدراك العمليات العقلية فينا، ويعطينا أفكارًا بسيطة مثل أفكارنا عن الإدراك والشك والمعرفة والإرادة.

من هذه الأفكار البسيطة يتولى العقل صياغة الأفكار المركبة، وهي تلك التي لا يقابلها شيء يمكننا معاناته بالإحساس أو بالاستبطان، وإنما هي من صنع العقل لأنه الذي يقوم بتركيبها مما سبق اكتسابه من أفكار.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وللأفكار المركبة أقسامٌ ثلاثة:

الأعراض Accidents: أفكار تشير إلى صفات لا توجد بذاتها، بل تقوم بغيرها، مثل فكرة المثلث والجمال والصداقة.

الجواهر Substances: الأفكار الدالة على أشياء تقوم بذاتها، ويمكن أن تقوم عليها الأعراض، ومنها الجواهر الجزئية بشقيها المادي والروحي.

العلاقات Relations: أفكار تنشأ من التأليف بين أفكار متمايزة، مثل معنى البنوة الذي يجمع بين فكرتي الأب والابن، وأفكار الزمان والمكان والسببية.

السببية إذًا فكرة مركبة تجمع بين معنى شيء مُوجِد، ومعنى شيء مُوجَد منه. والأصل فيها أن تعاقب الظواهر يخلق بينها علاقات في الذهن، تحملنا على الاعتقاد بأنه إذا قامت ظواهر معينة، تلتها ظواهر أخرى، لكن هذا الاعتقاد ذاتي بحت وليس للسببية من معنى سوى هذا التوقع الذاتي.

على أن ذلك لا يعني انتفاء الضرورة عن علاقة الأسباب ونتائجها، إذ يربط «لوك» بين مفهومي «السبب» و«المقدرة» (Power)، فالمقدرة: تلك القوة الموجودة في كل جوهر مادي، على أن يقوم بإحداث أي تغيير في الصفات الأولية لشيء آخر، أو استقبال مثل هذا التغيير، فإذا قلنا مثلًا إن للنار قدرة صهر الذهب، فإنما نعني بذلك أن وضع قطعة من الذهب في النار ينتج عنه بالضرورة صهرها، فالمقدرة إذًا هي السبب في فعل النار على الذهب واستقبال الذهب لهذا الفعل. وليست المقدرة فكرة مركبة كالسببية، وإنما هي فكرة بسيطة تنتمي إلى البنية الداخلية للجواهر المادية الجزئية (مثل الذهب والنار)، وتناظر فكرة الإرادة في الجواهر الروحية، تلك التي نستشعرها من فعل إرادتنا على عقولنا وأجسامنا، فلا معنى لفكرة الإرادة دون الفعل، ولا معنى لفكرة المقدرة أو السبب دون نتائجها اللازمة عنها بالضرورة. وهكذا فلو علمنا الخصائص الذاتية لأي جوهر –أو ما ندعوه الآن بالبنية المجهرية (Microstructure)– أمكننا استخلاص نتائجه بالاستدلال العقلي، وهذا هو المصدر الحقيقي لفكرة الضرورة السببية.

هكذا يتراوح فهم «لوك» للسببية بين تسجيلات الحواس وابتكارات العقل، فيجعل من «السبب» أو «المقدرة» فكرة بسيطة مكتسبة بالتجربة. أما العلاقة ذاتها بين الأسباب ونتائجها فيلقي بها في أحضان العقل ليقوم بتركيبها وتبرير ما تنطوي عليه من ضرورة.

يتبع…

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

النزعة الإلحادية الجديدة ونصل أوكام

خطاب ما بعد الحداثة وعدمية الذات

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية