العقل كبرمجيات حاسوبية
تُخبرنا النظرية الحاسوبية للعقل (Computational Theory of Mind) أو مذهب الحوسبة (Computationalism)، أن عقولنا تُشبه الحواسيب في عملها، أي أنها تتلقى مدخلات من العالم الخارجي، ثم تُنتج بالخوارزميات مخرجات في شكل حالات ذهنية أو أفعال. وبعبارة أخرى، تذهب النظرية إلى أن الدماغ لا يعدو أن يكون معالجًا للمعلومات، إذ يكون العقل بمثابة برمجيات (سوفت وير) تعمل على جهاز هو الدماغ (هارد وير). ما دام العقل مجرد برمجيات تخضع للحوسبة الفيزيائية بواسطة الأدمغة، فمن الممكن إذن منطقيًا نقلها إلى أي حاسوب مثلما نقوم بنقل أية برمجيات أخرى.
كان هذا محور السؤال الذي طرحه أحدهم ذات يومٍ في ضوء النظرية الحاسوبية للعقل: هل من الممكن أن يمتد بي العُمر بما يكفي لكي أتمكن من نقل عقلي (بكافة ما فيه من معلومات) إلى حاسوب، إذ يظل يعمل حتى بعد موتي؟ وقد أجاب عن هذا السؤال غيوم تيري (Guillaume Thierry) أستاذ علم الأعصاب الإدراكي (Cognitive Neuroscience) في جامعة بانجور (Bangor University) في المملكة المتحدة، مُوضحًا في مقال نشره في التاسع من يونيو سنة 2022، بموقع ذا كونفرسيشن (The Conversation)، أن ثمة مشكلات فيزيائية تقف عائقًا أمام الإمكان المنطقي المفترض، ولا بد من وضعها في الحسبان.
غالبًا ما نتخيل أن الوعي البشري بسيط مثل إدخال وإخراج الإشارات الكهربائية داخل شبكة من وحدات المعالجة، وعليه يمكن مقارنة آلية حدوث الوعي بآلية عمل الحاسوب. لكن الواقع في الحقيقة أكثر تعقيدًا، لأننا لا نعرف في الواقع مقدار المعلومات التي يمكن أن يمتلكها الدماغ البشري!
في أبريل من سنة 2019، رسم فريق بحثي، في معهد ألين لعلوم الدماغ (Allen Institute for Brain Science) في سياتل (Seattle) في الولايات المتحدة الأمريكية، خريطة للبنية ثلاثية الأبعاد لجميع الخلايا العصبية في ملليمتر مكعب واحد من دماغ فأر، وهو عملٌ يعد بلا شك استثنائيًا. وضمن هذا المكعب الصغير من أنسجة المخ (الذي هو بحجم حبة رمل)، أحصى الباحثون أكثر من مائة ألف خلية عصبية، وأكثر من مليار وصلة بينها، وتمكنوا من تسجيل المعلومات المقابلة على الحواسيب، بما في ذلك شكل وتكوين كل خلية عصبية وكل نقطة اتصال، الأمر الذي تطلب اثنين بيتابايت (Petabytes)، أو مليوني جيجابايت (Gigabytes) من سعة ذاكرة التخزين. وللقيام بذلك، كان على المجاهر الإلكترونية المُتاحة جمع ما يقرب من مائة مليون صورة من 25000 شريحة من العينة الصغيرة باستمرار على مدى عدة أشهر. فإذا كان هذا ما يلزم لتخزين المعلومات الفيزيائية الكاملة للخلايا العصبية ووصلاتها في ملليمتر مكعب واحد من دماغ الفأر، فربما أمكنك أن تتخيل أن جمع هذه المعلومات من الدماغ البشري لن يكون بمثابة نزهة في حديقة!
مع ذلك، فإن استخراج البيانات وتخزينها ليس التحدي الوحيد الذي يُواجهنا، فلكي يشبه الحاسوب طريقة تشغيل الدماغ، فإنه في حاجة إلى الوصول إلى كافة المعلومات المخزنة في فترة زمنية قصيرة جدًا، بمعنى أنه يجب تخزين المعلومات في ذاكرة الوصول العشوائي (Random Access Memory: RAM)، وهي الذاكرة المسؤولة عن تخزين البيانات الأساسية للتطبيقات التي تعمل آنيًا في الخلفية، وهي مؤقتة لأن المعلومات تُفقد منها بمجرد انقطاع التيار عن الحاسوب، بدلًا من تخزينها في الأقراص الصلبة التقليدية. لكن إذا حاولنا تخزين كمية البيانات التي جمعها الباحثون في ذاكرة الوصول العشوائي للحاسوب، فسوف تشغل نحو 12.5 ضعف سعة أكبر حاسوب ذي ذاكرة واحدة بُنِي على الإطلاق! ولا غرو، فدماغ الإنسان يحتوي على ما يقرب من مائة مليار خلية عصبية (تقريبًا عدد النجوم في مجرة درب التبانة)، أي مليون ضعف تلك الموجودة في المليمتر المكعب من دماغ الفأر. والعدد المقدر للوصلات عدد مذهل (عشرة أس 15، أي عشرة متبوعة بـ15 صفرًا)، وهو رقم يمكن مقارنته بعدد الحبيبات الموجودة في طبقة من الرمال بسُمك مترين على شاطئ طوله كيلومتر واحد!
مشكلة المساحة
إذا كنت لا تعرف حتى مقدار المعلومات المُخزنة التي يمكن أن يمتلكها دماغ بشري، فبإمكانك أن تتخيل مدى صعوبة نقل هذه المعلومات إلى حاسوب، إذ يجب عليك أولًا ترجمة المعلومات إلى رموز يمكن للحاسوب قراءتها واستخدامها ما إن تُخزن، وأي خطأ في القيام بذلك من المحتمل أن يكون قاتلًا. ثمة قاعدة بسيطة لتخزين المعلومات نعرفها جميعًا، ألا وهي أننا في حاجة إلى التأكد أن لدينا مساحة كافية لتخزين جميع المعلومات التي نحتاج إلى نقلها قبل أن نبدأ في النقل، وما لم يحدث ذلك، فسيتعين علينا أن نعرف بالضبط ترتيب المعلومات التي نقوم بتخزينها وفقًا لأهميتها، وكذلك كيفية تنظيمها، وهو أمر بعيد عن أن يكون مُتاحًا أو ميسورًا بالنسبة إلى بيانات الدماغ! فإذا كنا لا نعرف مقدار المعلومات التي نحتاج إلى تخزينها عند البدء، فقد تنفد المساحة قبل اكتمال النقل، ما يعني أن سلسلة المعلومات قد تُصبح تالفة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب تخزين جميع البيانات في نسختين (إن لم يكن ثلاث) على الأقل، لمنع العواقب الوخيمة المترتبة على الفقدان المحتمل للبيانات.
لقد استخدم الباحثون في معهد ألين 25000 شريحة رقيقة للغاية من الأنسجة، لكي يتمكنوا من تخزين البنية ثلاثية الأبعاد لشبكة الخلايا العصبية في جزء صغير جدًا من دماغ الفأر، ويجب تطبيق التقنية ذاتها على الدماغ البشري، أعني تجزئته إلى قطع صغيرة، إذ تُخزّن المعلومات في الدماغ في كل تفاصيل هيكله المادي للوصلات بين الخلايا العصبية: حجمها وشكلها، كذلك عدد وموقع المشابك الواصلة بينها. حتى لو وافقنا على تقسيم الدماغ إلى شرائح رفيعة للغاية، فمن غير المرجح أن يُقطّع الحجم الكامل لدماغك بدقة كافية، وأن نقوم بإعادة تجميعه تجميعًا صحيحًا، فمن المعروف أن حجم الدماغ البشري يبلغ نحو 1.26 مليون مليمتر مكعب!
مشكلة الوقت
بعد أن نموت، تخضع أدمغتنا بسرعة لتغيرات كبيرة كيميائية وبنيوية، فعندما تموت الخلايا العصبية فإنها تفقد قدرتها على التواصل بسرعة، وتُعدّل خصائصها الهيكلية والوظيفية بسرعة، ما يعني أنها لم تعد تتمتع بالخصائص التي تتمتع بها ونحن أحياء. لكن الأمر الأكثر إشكالية حقيقة أن أدمغتنا تشيخ!
بدايةً من سن العشرين، نفقد 85000 خلية عصبية يوميًا، لكن لا تقلق كثيرًا، فنحن في الغالب نفقد الخلايا العصبية غير المُستخدمة، أو التي لم يعد لها دورٌ في أية معالجة للمعلومات. يؤدي هذا إلى تشغيل برنامج للتدمير الذاتي (Self-Destruction) يسمى الاستماتة أو موت الخلايا المبرمج (Apoptosis). بعبارة أخرى، تقوم عشرات الآلاف من الخلايا العصبية بقتل نفسها كل يوم، بينما تموت الخلايا العصبية الأخرى بسبب الإرهاق أو العدوى. هذه في الحقيقة ليست مشكلة كبيرة، لأننا يكون لدينا ما يقرب من 100 مليار خلية عصبية في سن العشرين، ومع معدل الاستنزاف هذا، نفقد فقط من اثنين إلى ثلاثة في المائة من الخلايا العصبية بحلول سن الثمانين، شريطة ألا نصاب بمرض تنكس أو تآكل عصبي (Neurodegenerative)، من ثَم تستطيع أدمغتنا تمثيل أسلوب تفكيرنا مدى الحياة في ذلك العمر. لكن ما العمر المناسب للتوقف والمسح والتخزين؟
هل تفضل تخزين عقل عمره ثمانين عامًا أم عشرين عامًا؟ إن محاولة تخزين عقلك في وقت مبكر جدًا من شأنها أن تُفوت كثيرًا من الذكريات والتجارب التي هي ضرورية لتحديد هويتك لاحقًا. وفي المقابل، قد تؤدي محاولة نقل عقلك إلى حاسوب بعد فوات الأوان إلى المخاطرة بتخزين عقل مصاب بالخرف! لذلك، ونظرًا لأننا لا نعرف مقدار التخزين المطلوب، ولا يمكننا أن نأمل في العثور على ما يكفي من الوقت والموارد لرسم خريطة كاملة للبنية ثلاثية الأبعاد لعقل بشري كامل، خريطة يتعذر رسمها دون تقسيم الدماغ إلى زليونات (Zillions) من المكعبات والشرائح الصغيرة، فقد يكون من المستحيل نقل العقل إلى حاسوب أيًا كانت سعته، على الأقل لفترة طويلة مُقبلة. لكن هذا ليس كل شيء!
مشكلة الكيف
لعل المشكلة الأكبر إزاء محاولة نقل العقل إلى حاسوب والاحتفاظ به أنه حتى لو تمكنا من تخطي العقبات العديدة التي ناقشناها أعلاه، فإننا لا نزال نعرف قليلًا جدًا عن الآليات الأساسية. تخيل أننا نجحنا في إعادة بناء البنية الكاملة لمائة مليار خلية عصبية في دماغ شخصٍ ما، بالإضافة إلى الوصلات الرابطة بينها، وتمكنا من تخزين ونقل هذه الكمية الفلكية من البيانات إلى جهاز حاسوب في ثلاث نسخ، حتى لو تمكنا من تخطي هذا المستحيل، فسوف نظل نواجه مجهولًا كبيرًا.. أعني: كيف تعمل؟
بعد السؤال ماذا (ما هي المعلومات الموجودة؟)، والسؤال متى (متى يكون الوقت المناسب للنقل؟)، يكون السؤال الأصعب هو كيف. نحن نعرف أن الخلايا العصبية تتواصل مع بعضها بناءً على التغيرات الكهربائية المحلية، تلك التي تنتقل عبر امتداداتها الرئيسة (التشعبات والمحاور Dendrites and Axons). هذه التغيرات يمكن أن تنتقل من خلية عصبية إلى أخرى مباشرة أو عبر المشابك العصبية (Synapses).
عند المشبك، تُحوّل الإشارات الكهربائية إلى إشارات كيميائية (وسائط عصبية Neuromediators)، يمكن أن تُنشط أو تعطل الخلية العصبية التالية. ونحن نعرف بالفعل قدرًا كبيرًا من المبادئ التي تحكم عمليات نقل المعلومات هذه، لكننا لا نستطيع فك تشفيرها بالنظر إلى بنية الخلايا العصبية ووصلاتها فقط. لذا نُواجه الآن خيارًا أكثر صعوبة من تحديد الوقت الأفضل في مجرى الحياة لنقل العقل، عليك أن تختار بين البنية (Structure) والوظيفة (Function)، البنية ثلاثية الأبعاد للعقل في مقابل كيفية عملها على المستوى الخليوي، وذلك نظرًا لعدم وجود طريقة معروفة لجمع كلا النوعين من المعلومات في الوقت ذاته!
مما سبق يتضح أن إمكانية تحميل المعلومات الموجودة في الأدمغة على الحواسيب بعيدة المنال تمامًا في الوقت الحالي، وقد تكون كذلك إلى الأبد! وربما كان السؤال الذي يجب أن نطرحه الآن: لماذا قد يرغب أحدنا في تحميل عقله على جهاز حاسوب؟
هل عقولنا أكثر من مجموع أجزائها (البيولوجية)؟
لنفرض أنك تريد نقل عقلك إلى جهاز حاسوب على أمل أن يكون موجودًا بعد فترة حياتك، أو حتى بعد موتك، وأنك ترغب في الاستمرار في التواجد داخل الحاسوب بمجرد أن يتعذر على جسمك أداء المهام العقلية في دماغك الحي.
إذا كانت هذه الفرضية صحيحة، فلا بد أن نعترض: تخيل أن جميع الأشياء المستحيلة المذكورة أعلاه قد حُلّت ذات يوم، وتمكنت بالفعل من نسخ دماغك حرفيًا إلى جهاز حاسوب، مما يسمح بمحاكاة كاملة لعمل دماغك. لكن في اللحظة التي تقرر فيها النقل يُفاجئك الموت! إن الصورة الذهنية المنقولة إلى الحاسوب لن تكون حية في هذه الحالة أكثر من الحاسوب الذي يستضيفها. وما ذلك إلا لأن الكائنات الحية، مثل البشر والحيوانات، موجودة ببساطة لأنها على قيد الحياة! قد تعتقد أن هذا شيء تافه تمامًا، لكن إذا فكرت في الأمر، فهناك ما هو أكثر مما تراه العين، يتلقى العقل الحي مدخلات من العالم عن طريق الحواس، بمعنى أنه مرتبط بجسم يشعر به على أساس الأحاسيس الجسدية، وينتج عن هذا مظاهر جسدية مثل التغيرات في معدل ضربات القلب والتنفس والتعرق، التي بدورها يمكن الشعور بها وتساهم في التجربة الداخلية. كيف يمكن إذن أن يعمل هذا في حاسوب بلا حواس؟
من غير المحتمل أن تكون كل هذه المدخلات والمخرجات سهلة النمذجة، خاصةً إذا كان العقل المنسوخ منعزلًا ولا يوجد نظام لاستشعار البيئة والتصرف استجابةً للمدخلات. يدمج الدماغ بسلاسة وباستمرار الإشارات من جميع الحواس لإنتاج تمثيلات داخلية، وينتج تنبؤات حول هذه التمثيلات، وفي النهاية يخلق وعيًا (شعورنا بأننا على قيد الحياة) خلقًا لا يزال يُمثل لغزًا كاملًا أمامنا.
بغير تفاعل مع العالم، مهما كان خفيًا وغير واعٍ، كيف يمكن للعقل أن يعمل ولو لدقيقة؟ وكيف يمكن أن تتطور أنت وتتغير؟ إذا كان العقل، سواء أكان صناعيًا أم لم يكن، ليس له مدخلات أو مخرجات، فإنه يخلو من الحياة، تمامًا مثل الدماغ الميت!
بعبارة أخرى، إن نقل دماغك إلى جهاز حاسوب من شأنه أن يفشل تمامًا في إبقاء عقلك على قيد الحياة. يمكنك الرد بأنك ستطلب بعد ذلك ترقية، وتطلب نقل عقلك إلى روبوت متطور مزود بمجموعة من المستشعرات، القادرة على رؤية العالم والسمع واللمس وحتى شم وتذوق العالم (لم لا؟)، وسيكون هذا الروبوت قادرًا على التصرف والتحرك والتحدث (لم لا؟). لكن حتى ذلك الحين، من المستحيل نظريًا وعمليًا أن توفر أجهزة الاستشعار والأنظمة الحركية المطلوبة للإحساس، وأن تنتج أفعالًا متطابقة أو حتى قابلة للمقارنة مع تلك التي يوفرها وينتجها جسمك البيولوجي الحالي، فالعيون ليست كاميرات بسيطة، والآذان ليست مجرد ميكروفونات، واللمس لا يتعلق فقط بتقدير الضغط على شيء ما! إن العيون مثلًا لا تنقل تباينات الضوء والألوان فحسب، بل تُدمج المعلومات الواردة منها فور وصولها إلى الدماغ من أجل تشفير العمق (المسافة بين الأشياء)، ونحن لا نعرف بعد كيف يحدث ذلك!
يترتب على هذا أن عقلك المنقول لن تكون لديه إمكانية الارتباط بالعالم مثلما يفعل عقلك الحالي. كيف يمكننا حتى ربط أجهزة الاستشعار الصناعية بالنسخة الرقمية لعقلك (الحي)؟ ماذا عن خطر القرصنة؟ أو الفشل في عتاد الحاسوب؟ حياتك يا صديقي هي المكان الذي سيبقى فيه عقلك ويزدهر، ولن يكون أبدًا مجرد حاسوب أو برمجيات مُخزنة في آلة!
مقالات ذات صلة:
هل نحن نعيش داخل برنامج محاكاة؟
نحو أخلاقيات للتكنولوجيا العصبية
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا