فى البداية أعتذر عن اللغة العامية المستخدمة فى العنوان ، ولكنها تلك الجملة التى لطالما سمعتها أذنى ولم تستطع أن تألفها بعد ، تلك الجملة التى غالباً ما يلحق بها من تناقضات ما ينفى تماماً صدورها عن العقل ، ولكنه ذلك الجهل بالعقل وما يعنيه كأداة معرفية ودوره فى تحصيل المعرفة وطرقه للسلوك فى دروب المعرفة المختلفة ، مما حدا بالبعض ليظن بالحقيقة والعقل الظنون ، فيخرج علينا بأفكار ترد على نفسها بنفسها كقول فريدريك نيتشة مثلاً: “لا توجد مسلمات أبدية ولا حقائق مطلقة” ، أو إيمان البعض مثلاً باستحالة الوصول للحقيقة وأنها مجرد وجهات نظر مختلفة ، وقد تناقض بعضها البعض مما يظهر معه الجهل المطبق بما يقوله العقل وما يسوقه إلينا صوته.
وكأى كلام أو صوت آخر يجب أن نكون على دراية أولاً بما يعنيه قبل أن ندلو بدلونا فيه وما قد يكون المراد منه ، فكذلك صوت العقل لابد لنا أن نعلم لغته كى نستطيع أن نحكم بقوله للشىء الكذائى أو لا ، بدلاً من إلصاق التهمة تلو الأخرى بأفكار لا يمكن أن تصدر من عقل سليم ، كما أننا لا نستطيع مثلاً حين نسمع نباح كلب أو زقزقة عصافير أو ربما زئير ليث أن ننبرى وندعى بأن الكلب أو العصفور أو الليث يقول كذا ، وكذلك لا يمكن أن ندعى على العقل ونفترى عليه كذباً ولو كنا حسنى النية دون أن نملك ما نميز به ما ينطق به العقل من الهوى.
يقول ديمبسكى فى وصفه للنظم حسب نظريته (التعقيد المتخصص): “إن أحد حروف الأبجدية هو متخصص دون كونه تعقيداً ، وجملة طويلة من الأحرف العشوائية هى تعقيد دون كونها متخصصة ، بينما قصيدة لشيكسبير هى تعقيد متخصص” ، وكذلك أى لغة فهى لا تقتصر فقط على مجموعة من المقاطع الصوتية ، بل ولابد أن تحمل تلك المقاطع دلالات ما وإلا أصبحت بلا معنى ، وكذلك صوت العقل أو ما أطلق عليه الحكماء قوانين التفكير (المنطق) ، فلابد أن يكون من صورة ومادة أو شكل ومضمون حيث فقدان أحدهما يجعل وجود الأخر منقوصاً مفتقراً لما يبرز مراده ويقوده لغايته.
وكما أن المخارج اللفظية تبرز المعنى وتوضحه كان (القياس) هو شكل صوت العقل وصورة كلامه وهيئته ، فبه نستطيع إزاحة ما يكتنف كلامه من غموض ، والقياس هو ما فيه ننتقل من كلى إلى جزئى أى قياس التفاصيل الجزئية على المبادىء الكلية للخروج بنتيجة جزئية ، كأن نقول مثلاً (فلان مصرى .. وكل مصرى عربى .. إذن فلان عربى) ، وهى إحدى صور القياس المختلفة وفى هذا المثال كانت الصورة (أ ب .. كل ب جـ .. إذن أ جـ) ، ليتبدى لنا ولو قليلاً ما قد يقوله العقل ولو صورياً ، ولكن مع إيضاح هذا لابد أن نؤكد مرة أخرى على أن ذلك ليس كافياً البتة ، فربما تكون صورة الكلام وهيئته براقة لامعة دون أن تحمل فى مضمونها سوى الخزعبلات والأكاذيب ، كقصر بُنى من ورق مقوى فتذروه الرياح أو ينهدم أمام الطرقة الأولى على بابه.
لذا كان من الضرورى معرفة القسم الثانى من تلك اللغة التى لاحقتها الكثير من الظنون لما أُلصق بها ، وهو المختص بمادة الكلام وصناعته التى بها نميز بين الضلالات وبين الحقائق ، فكانت صناعة البرهان هى منطوق العقل الوحيد وهى أن تتميز مقدمات القياس آنفة الذكر بأن تكون يقينية بديهية ، لا من وجهة نظر هذا أو ذاك ولكنها يقينية فى ذاتها ، وهى يقينيات أربعة بين (الكل أعظم من الجزء) و(استحالة إجتماع النقيضين) و(أصل العلية) و(استحالة التسلسل والدور) ، فما كان منهما كان يقينى بهما مساوى لهم فى الصحة والصواب ومطابقة الواقع ، لتمثل تلك اليقينيات البديهية حجر الأساس الذى منه انطلقت العلوم العقلية ، كما انطلق علم الرياضيات مثلاً من أن اثنين هى مجموع فردين متساويين لا يزيد أحدهما عن الواحد الصحيح.
ليمثل كل ما سبق لغة العقل الوحيدة فيظهر لنا ما أُلصق به من أفكار ساذجة ، لا تخرج عن كونها لغة الهوى أو الاستحسان ، ليبقى أمامنا معرفة أن تلك اللغة تعرف حدودها بنفسها ، فما عليه برهان ثبت وما لم يضمه البرهان دل عليه كالنص فى العبادات أو التجربة فى الطبيعيات ، ليتضح لنا ما قد يقوله العقل أو ينكره ، وما هو ليس سوى أضغاث هوى النفس أو الأدلة الفاسدة -التى حكم العقل بفسادها- أو ربما نقص العلم بالعقل ولغته.
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.