مقالاتقضايا شبابية - مقالات

العزلة الاجتماعية -2-

عندما تكلمنا عن العزلة الاجتماعية في مقال قديم خلصنا لبعض الاستنتاجات أهمها أن الانعزال الفكري هو السبب في العزلة الاجتماعية والتي هي بدورها سبب في طغيان التواصل الافتراضي على الحياة الاجتماعية التي نعيشها اليوم. الأمر الآخر الهام في نتائج التحليل أن الحَجْر على استخدام هذه المواقع (شبكات التواصل الافتراضي) ليس حلا حقيقيا لأزمة العزلة الاجتماعية لأنه يعالجها في عارض عليها وليس في سببها الحقيقي. فكما أن اليوم ينتشر استخدام الموقع الفلاني أو التطبيق العلاني للتواصل فإننا مع حجره سيظهر لنا ألف بديل ولكل بديل ألف ألف بديل. فكما قلنا إن غريزة الإنسان الإجتماعية ستجد مخرجا جديدا تشبع به هذا الاحتياج للتجانس والانسجام الاجتماعي. وفي نقطة التشابه وضحنا أن التشابه الحقيقي لا يكون في المادة (المستوى الاجتماعي أو الحي والمدينة أو العرق والنسب أو المدرسة والكلية) فكل هذه الأصرح الاجتماعية هي ساحات للتقابل الاجتماعي والتعارف ولا يكفي التعارف الاجتماعي وحده ليتحقق التجانس الاجتماعي. فبدون التجانس الفكري والثقافي يمكن لنا أن نعتبر كل تفاعل إجتماعي مهما كان مركبا أو ممتدا هو مجرد اجتماع مصالح أو توافق رغبات لكن لا يصل لشمولية التوافق الثقافي من حيث وحدة المنطلقات والوسائل والغايات بحيث إنه يضمر ويموت ما إن تنتهي المصلحة المشتركة ولو تدريجيا.

أنواع التواصل الاجتماعي

نبدأ هنا بتعريف درجات التواصل الاجتماعي المختلف التي يمكن أن نصل لها مع الأفراد والمجموعات حولنا. ولنبدأ من الطرف الأقصى المقابل للتواصل وهو النفور التام. وللنفور أسباب كثيرة لا يمكن اختزالها في المادة. فالمرأة قد تنفر من زوجها على الرغم من اقتداره المادي وتمكنه من تلبية كافة رغباتها المادية. إلا أن هذا النفور المستحكم لديها نابع عن نقص معين في التواصل والتوافق بينهما والذي قد يصل للتصارع بينهما على بعض الجزئيات المشتركة في الحياة. جعلت مرارة هذا الصراع استمرار الحياة بينهما أمرا شبه مستحيل. هنا تجد المرأة الحل في إلهاء نفسها عن هذه المرارة بالطرق المباحة (الانشغال بالأطفال، إيجاد تفاعل بديل مع الأصدقاء والأقرباء وما إلى ذلك من منافذ التنفيس عن هذا الكبت الاجتماعي ) أو بالطرق المحرمة وهي كثيرة. فإن لم تستطع إيجاد حل فإنها تفضل قطع هذه الأوصال الاجتماعية -على الرغم من كل ما يحمله هذا الاختيار من خسارة مادية واجتماعية ومعنوية للطرفين- على أن تستمر بتجرع هذا الكأس المر. ربما لأن الأهداف المتاحة أمامها في هذه الحياة الزوجية لا تستحق أن تتحمل من أجلها هذا العناء في التواصل.

في بعض الأحيان الأخرى نجد زوجة في أشد التمسك بحياتها الزوجية بالرغم من صعوبة العيش وضيق الحال وانعدام التمتع والرفاهية بالمستوى المعقول حتى. ما هو هذا العامل الذي ظهر في معادلة التفاعل الاجتماعي بين الزوجة وزوجها والذي قام بطمس الأثر السلبي للكفاف المادي والذي كان من الممكن جدا أن يدمر هذا الترابط أو التفاعل الاجتماعي؟ قد نختلف في تشخيصه لكن يكفي أن نقول أنه ليس سببا ماديا (لانعدام أغلب المقومات المادية في هذه الحالة) فإنها كزوجة وجدت مفهوما للسعادة في هذه الحياة وراء المفهوم المادي البسيط بحيث إنها تكتفي بهذا المفهوم الأعلى أو الأبعد للسعادة عن النقص الذي تعانيه في الجانب المادي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هذه هي الحدود التي نعمل خلالها. انعدام التواصل الاجتماعي حتى مع توفر كل المقومات المادية له في طرف، وديمومة التواصل الاجتماعي حتى مع انعدام أي مقوم مادي معقول لقيامه في الطرف الآخر. وبين الطرفين طيف مستمر ومتدرج من الحالات والتركيبات بين العوامل التي تساعد أو تقوض من أواصر التفاعل الاجتماعي لينتج لنا هذا المزيج من العلاقات الاجتماعية الذي نعيشه ونسمع عنه في حياتنا اليومية. ونستطيع أن نعكس هذه الحدود على كل شكل من أشكال التفاعل الاجتماعي لا الزواج فقط كالأب وأولاده أو الزملاء في العمل والطلبة في المدرسة والأصدقاء في النادي و…إلخ

نفسي الصغيرة وواقعي الكبير

نحن نُرجع غالبا مشاكلنا في التواصل الإجتماعي لأزمة الحوار. فالابن يشتكي أن أبويه لا يتعاملان معه وفق فكره ولكن بمنظور جاف بعيد عن واقعه وكأنهم يريدونه أن يعيش حياتهم وأحلامهم لا أن يصمم حياته ومستقبله وفق رغباته وأحلامه الخاصة. كذلك نجد هذا الفتور الفكري بين الرجل وزوجته وبين الأستاذ وتلامذته. نجد انعاكاسات لهذا العامل (الفتور الفكري) في كل جوانب حياتنا. لي تجربة في التدريس في الجامعة، وقد لاحظت شيئا هاما في سلوكي كمدرس للطلبة. فأنا في بعض الأحيان أسخر أو أستخف بهم لعدم قدرتهم على حل معادلة أو معضلة فكرية معينة. ولكن ما إن يراودني هذا الشعور حتى أجد النسخة الشابة مني والتي كانت تسير في نفس طرقات جامعتي وتواجه المشاكل مع المسائل وتَكَبُّر الأساتذة والمعيدين تقول لي منبهة “ألا تتذكر أنك كنت في يوم من الأيام في مكان هذا الطالب… كنت تحتار مع المسائل وتفكر فيها… وكنت تواجه من يسخر منك ويستتفه أسئلتك كما أنت تفعل اليوم؟!!”. وبالفعل فهذا الشاب الصغير بداخلي معه حق فلقد أنسانا العمر كم كنا صغارا وكنا طائشين ومتهورين وكنا نظن أنه لا شيء يمكن أن يوقفنا. كنا لا نبالي بالمعوقات لأن أحلامنا كانت أكبر من أن تحطمها أي موانع أو عقبات. كان هذه هي الحالة التي نصفها بالعنفوان أو الاندفاع الأعمى.

ما إن تذكرني نفسي بهذه الحالة حتى أحاول أن أغير من طريقة تعاملي على الفور. فأحاول أن أتذكر الطريقة التي كنت أشرح لنفسي بها المسائل. كم كنت رقيقا مع نفسي وصبورا عليها، أرتقي بها سلم الكفاح خطوة بخطوة لا أكترث بمن حولي. كانت نفسي هي طفلي الأول وابني البكر. كنت أربيها على المسائل الرياضية بكل حب وهدوء ولا ألومها على التقصير ولا أسخر منها عند الخطأ. إن هذه التربية الذاتية هي التي أدت للنتيجة التي تتكلم وتنظر وتفكر وتكتب الآن. إن هذا الأسلوب في التربية هو الذي جعلني ما أنا أمتدح (إن جاز لي أن أمتدح) نفسي عليه الآن. لماذا إذن أحرم الناس مما كنت أمتع نفسي به؟ كم تغير أسلوبي مع الناس عندما أضع هذا المنظور في عقلي وأنا أعاملهم. وكم أكون فظا وغليظا إذا تناسيت أو نسيت هذا المنظور. إن هذه هي الرسالة الإنسانية الحقيقية للاحتواء والتواصل. فإن كنا غير مستعدين أن نساعد من يطلب المساعدة فلسنا نستحق منهم عناء محاولة التواصل معنا.

لماذا لا نحب الحوار؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إن افتقادنا لملكة وفن الحوار هو ما يجعلنا نتعامل مع الواقع الاجتماعي من حولنا بطريقة الفظاظة و”تكبير الدماغ”. فكل واحد منا بنى حول نفسه هالة من التصورات الجامدة المتعالية المطعمة بالكبر والعند. وبالتالي نحن غير مستعدين لتقبل الغير قبل أن يصعد (أو هكذا نظن في أنفسنا أننا أعلى ممن سوانا) لمستوانا أولا متجردا من كل أفكاره وخواطره وأن يكون مستعدا أن يتعامل معنا كمتلق فقط. فكل واحد ينظر لنفسه كمخزن الحكمة ومعدن العلم وعلى الجميع أن يستفيد منه ويستقبل فكره قبل أن ينتهي وقت المقابلة. طبعا لا نتعجب طالما أننا نتعامل بهذه السلبية مع الواقع الاجتماعي إذا ما أدى هذا لانهيار كل التواصل الاجتماعي مع من نحب. فإن كِبرنا ونرجسيتنا هي السبب الرئيسي في هذا الانهيار. ولا نعلم ما سبب أو أصل هذا التكبر…هل نحن فعلا على يقين أننا على حق؟ هل نضع احتمال مهما كان ضئيلا أننا قد نكون على خطأ؟ وهل نتكبر بسبب عمرنا و”أقدميتنا” على أن يأتي من هو أصغر منا ليعلمنا؟ كل هذه الأسئلة علينا أن نطرحها على أنفسنا قبل أن نلوم هذا الموقع أو ذاك التطبيق على الفتور الاجتماعي الذي نعيشه.

الجانب الآخر المتكبر

التكبر والنرجسية التي بداخلنا لا تنتهي عند حدود فرض رأينا ووجهة نظرنا على من يتحاور معنا. ولكن تتمادى لحد فرض وجهة النظر على من لا يريد التحاور من أساسه معتقدين أننا بالتناوش مع الأطراف البعيدة قد نجذبها نحو وجهات نظرنا ونعيد بناء التفاعل المقطوع، طبعا هذا لا يؤدي إلا لنتائج عكسية. فكثرة الجلبة والصخب والجدال مع الأنفس البعيدة والنافرة عنا لن يزيدها إلا بعدا ونفورا. إن تكبرنا الشديد يمنعنا من أن نتقبل الأمر الواقع بل نعاند ونحاول أن نقنع من لا أمل بإقناعه بوجهات نظرنا. أولا هناك خللان في هذا الأمر: فمازال هناك احتمال بأن تكون وجهات نظرنا خاطئة، ولو كانت صحيحة بالبرهان والدليل فمن قال إننا يمكننا فقط -لأن نظريتنا صحيحة- أن نفرضها على الآخر؟ إن الإقتناع لا يمكن أن يتولد بالغصب مهما كان المبدأ سليما. إن بعضنا يعتقد خاطئا أنه يخدم الحق الذي يؤمن به حينما يستخدم مكبر الصوت ويفرض على الغير وجهة نظره، ناهيك عما يحمله ذلك من توهين وإبخاس لقيمة الحق فهو في النهاية تضحية بقيمة الحق بلا طائل أو نتيجة متحققة. إنك كما أعطيت لنفسك البرهة والفرصة لتجرب وتختبر ولو عقلا لتصل لليقين فلا تمتلك حق أن تسلب هذه الفرصة من غيرك.

أسس الحوار

أنا أعتبر أن هذه النظرة للنفس المتعلمة هي التي يجب أن تشكل الأساس لأسلوب تحاورنا ونقاشنا. فالمعرفة وحدها لا تكفي. بل يجب أن تؤسس على الدليل السليم الصحيح ليتحقق اليقين والإيمان بالقضية. هذا البرهان يمر الإنسان برحلة حياتية ليصل له، وإن إلتزامه بالقضية يكون نابعا من اقتناعه الشخصي لا بسبب ظروف مفروضة عليه. فنتعامل مع الواقع الاجتماعي من حولنا من هذا الباب؛ باب التوضيح والتوجيه لا باب الغصب والجر. شتان بين أن تجري حواراتك في طريقة استفهامية تحاول فيها الوصول مع الطرف الآخر للإجابة وبين الطريقة “المحاضرية” التي تملي فيها على غيرك ما لديك. لكل طريقة مكانها المناسب ومرحلتها الاجتماعية المناسبة. وإن الاستخدام الخاطئ لهذه الطريقة أو تلك هو ما يؤدي حتما للتنافر في أي علاقة اجتماعية. فلو تعامل من في موقع المحاضر والملقن بطريقة التساؤل والتأمل قد يكون بذلك يحرم المتلقي من المعلومة الأساسية التي يحتاجها ولا يستطيع أن يصل لها بمقوماته الذاتية، فيزيده حيرة ونفورا من الحق، والعكس بالعكس. فاستخدام التلقين والمحاضرة مع غير المستعد نفسيا لتلقي المحاضرات قد يكوّن لديه تصورا خاطئا (أو صحيحا) عن الشخص المتكلم بأنه يتفاخر بزخم المعلومات لديه أو يحاول إظهار تفوقه في نسف حجج الآخرين.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

نعم نحن نواجه أزم في الفكر والثقافة وكل واحد منا يريد أن يعبر عن فكره ورؤيته ويبرر لها. ويرى في فكره ما قد يريح البشرية أو يكون حلا لهذه المشكلة أو تلك. لكن بالتأكيد مهما كانت نيتنا خيّرة خالصة للحق، فإن استخدام الأسلوب الخاطئ في التحاور لن يزيد الفجوة الاجتماعية إلا عمقا ولن يزيد الأطراف إلا تنافرا.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.

مقالات ذات صلة