إصداراتمقالات

العزلة الاجتماعية

لن تنصلح الأمة إلا بإصلاح أفرادها. والفرد السليم لا ينمو إلا في بيئة سليمة. قاعدتان متداخلتان قد يعطيان إحساسًا كاذبًا بالدور المرفوض منطقيا وبانعدام الأمل في الإصلاح. ولا بد من مخرج من هذه الأزمة. إن الإصلاح في حد ذاته هو عملية تراكمية تعتمد على عدة أركان. هذه الأركان هي التأسيس الفكري (المنطلقات) والغاية (الهدف) والاستعداد الداخلي (الإصلاح الذاتي) والوسط الخارجي (الأثر الاجتماعي). تجد في هذه الأركان الإجابة على الأسئلة الأساسية التي تجول في خاطرنا عندما نفكر في الإصلاح الاجتماعي. ماذا ولماذا وكيف الإصلاح؟

نركز الكلام في هذا العرض على الجانب الكيفي وعلى العوارض التي تنتاب مجتمعنا ونقدنا لها. فالإنسان بعد أن يجيب على ماذا ولماذا يتجه تلقائيا نحو العمل أو كيف الإصلاح؟ فعلى فرض أننا أجبنا على سؤال ماهية الإصلاح وغايته فإننا في الإجابة على الكيفية لا بد لنا من إدراك قانون طبيعي عام تخضع له الأشياء كلها في عالم المخلوقات بما فيها الإنسان. وهي أن الأشباه تتقارب. فالإنسان يسعى في الاجتماع نحو الألفة وأن يجد في من حوله تقارب وتشابه يشعره بالتناسق والتجانس الذي يحتاج له ليعالج عزلته ووحدته. هذا الاتساق والتجانس مطلب أساسي من مطالب الحياة. فالإنسان ما أن يلبي مطالبه الأساسية من مأكل ومشرب وملبس، فإنه ينطلق بعدها نحو تلبية غاياته الأسمى والأرقي في أن يحقق هذا التجانس العقلي والنفسي والروحاني مع الوجود.

ولهذا نجد الأنظمة الاجتماعية العادلة تسعى نحو تلبية متطلبات الإنسان المادية بالشكل الكفائي لينطلق هو ليحقق ذاته المعنوية ولا يهدر وقته في البحث عن القوت والملبس. بينما الأنظمة المادية تقحم الإنسان في العدمية المادية لينطلق من صراع لصراع ومن مادة لمادة ومن لذة للذة دون أن يتفرغ أو ينتبه لحاجاته الأساسية الأخرى والتي دونها لا تتحقق سوى سعادات زائفة لا تلبث إلا أن تنتهي ليحل محلها البؤس الحقيقي. وهو فيه ما فيه من الظلم للإنسان وللبشرية بمنعها الإنسان من أن ينال مقام التجانس والألفة والراحة الحقيقية.

ولضرورة هذا التجانس فالإنسان يسعى حثيثا خلفه لدرجة أن الإنسان صنف لهذا التجانس درجات ومستويات تتناسب في الشدة والضعف. وعليه فهو مستعد في بعض الحالات أن يتنازل عن الوصول للدرجة الأكمل من هذا التفاعل المعنوي في مقابل بعض المنافع المادية التي لا عيش له من دونها. يتجلى هذا المثال في إدمان وسائل الاتصال الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعية. الفكرة المغلوطة التي نشأت هي أن هذه الوسائل هي التي أدت لفتور التواصل الاجتماعي المباشر. بينما الواقع أن فتور التواصل الاجتماعي الحقيقي هو ما أدى لانفراد الإنسان (ظاهريا) وانعزاله الحقيقي عمن لا يجد فيهم التناغم المعنوي المطلوب في مقابل تفاعله وتواصله مع من يعتقد أنه وجد فيهم هدفه المنشود.

ولذلك لا بد من توضيح نقطتين هامتين: أولا أن التناغم المعنوي هدف ضروري للإنسان لا بد له منه وإلا فإنه سيشعر بالوحدة وعدمية وجوده الاجتماعي (لا فائدة للاجتماع إذا كان الاجتماع لا يحقق التكامل أو السعادة). النقطة الثانية تعتمد على إدراك النقطة الأولى، وهي أن الحل الذي يلجأ له الإنسان حينما يشعر بفتور التواصل الاجتماعي ليس في العزلة التامة والانفراد بل بالانعزال الظاهري عمن لا يشعر في وسطهم بالراحة والانفتاح على عالم جديد وأشخاص جديدة  يجد فيهم تلك الراحة التي يفتقدها. وبالتالي فإن إدمان مواقع التواصل الاجتماعي ليس سببا لفتور التفاعل الاجتماعي المباشر بل هو نتيجة له. وكانت نتيجة حتمية وكان لابد من توقعها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إن ما يمنع الإنسان من الهجرة الكلية الجسدية والمعنوية للمجتمع الجديد الذي يجد في ذاته الاجتماعية هو عدة أسباب. منها الارتباط الأسري بالمجتمع الفاتر الذي يشكوا منه. والارتباط المادي سواءً بالنفع أو الاستنفاع. ثالثا لأن المجتمع الجديد المريح في غالب الأحوال هو مجتع افتراضي لا يتحقق في الواقع إلا من خلال تلك المواقع وهذه التكنولوجيا. فكل عضو في هذا المجتمع من بلدة مختلفة وبطباع مختلفة قد لا تتفق مع كل الأفراد بصور مثالية. لم تجمعهم إلا بعض الأفكار أو الأنشطة التي هي في حد ذاتها ليست كل الحياة كما بينا ولكنها مازالت جزء هام وضروري من حياة الإنسان.

قد أخطأنا بتقسيمنا للمجتمع على أساس مادي بحتى (أرستقراطية ووسطى وفقيرة) فهناك التقسيم الثقافي أيضا وهو أهم وأدق من المادي. بل يكاد المادي يكون عديم الفائدة في كل المجالات عدا المجال المالي والاقتصادي وبشكل محدود. بينما نرى للتقسيم الثقافي دورًا أكبر وأوسع نطاقا يتغلل في كافة أنشطة الحياة. والثقافة عكس السائد ليست مقصورة على المسرح والسينما والندوات والمناقشات. فهذه أيضا ليست جوهر الثقافة بل هي عارض من عوارضها. أما الثقافة في ذاتها فهي مجموعة الأفكار والمبادئ التي تشكل رؤية الإنسان لوجوده وحياته وغايته (من أين؟ في أين؟ إلى أين؟) هذه الأفكار قد تستقى من أي مصدر من الكتب من التلفزيون.. من السينما.. من المسرح. كلٌ حسب مصدره ولكل مصدر نقاوة مختلفة وتركيز مختلف. مثل مصادر الماء فمنها المالح والعذب، ومنها الملوث والنقي، ومنها الجوفي والسطحي.

نجد هنا الطيف الثقافي متنوع وغزير ودقيق. ونجده أدق في وصف المجتمع عن غيره من المقاييس. كما نلاحظ التفاوت بينه وبين المقاييس الأخرى. فلا تستطيع الجزم ديموغرافيا ولا ماديا بأن المدينة الفلانية أو الحي العلاني أو الطبقة الفلانية هي مثقفة بثقافة معينة. لأن الأذواق الثقافية تتمايز وتتأثر لا بالمال فقط بل أيضا بالنشأة والتجربة الشخصية الفريدة والمستمرة مع الحياة. ولهذا حتى التوأمان المتشابهان قد يختلفان تماما في الرأي والثقافة (نفس التوزيع الديموغرافي والمادي والزمني تقريبا).

وإنما تفاقم هذه الطفرات والتفاوتات بين التوزيع الثقافي والتوزيعات الاجتماعية الأخرى هو أحد أسباب هذه العزلة عن التفاعل المباشر وهذا الإدمان للتفاعل الافتراضي أو غير المباشر. فلو أنني أنا كشخص أجد من مجتمعي المباشر كل ما أريده ماديا ومعنويا ما الذي يحوجني لتفاعل افتراضي يعتبر أضعف من التفاعل المباشر؟ لن أحتاج له إلا للتواصل مع المغتربين أو من يصعب التواصل المباشر معهم. ولكن المقسم هنا أن التفاعل غير المباشر لن يقطع أو يؤثر على التواصل المباشر. فيكون التواصل المباشر هو الطور المستمر للتواصل وتتقطعه بعض برهات التواصل الافتراضي. بينما الوضع الآن هو حالة مستمرة من التواصل غير المباشر تتقطعها برهات من التواصل المباشر. فنحن نستأذن من على مواقع التواصل لنتواصل مع من في العالم الحقيقي لا العكس. وهنا يظهر لنا الوجه الحقيقي للمأساة.

لا أرى في رأيي الحل لهذه الأزمة بالطرق التقليدية. فليس الحل في منع النت أو تحجيم وسائل الاتصال. فهو مماثل لعلاج الفقر بالتبرعات أو لعلاج الإدمان بفتح مصحات العلاج من الإدمان. فمع الاحترام لهذه الأساليب ولكنها أساليب تكيف وتجاهل للأزمة لأنها لا تعالج الأزمة في عقر دارها ولكن في عوارضها. اليوم اخترعنا مواقع التواصل الاجتماعي لعلاج أزمة التواصل وغدا سنخترع غيرها. إن المجتمع الذي يتبنى وسائل التكميم والتحجيم هو مجتمع قمعي يسعي لتعميق فجوة التواصل لا لحلها. ولكني أرى الحل في السعي الثقافي لحل المشكلة. ما كنا لنجتمع لولا أن هناك ثقافة موحدة اجتمعنا عليها في يوم من الأيام. أين هي هذه الثقافة اليوم؟ هل ما زالت هي جوهر مجتمعنا؟ هل تغيرت؟ هل وافق الجيل الجديد على تغييرها؟ وهل التغيير الجديد متوافق مع هويته التي يبحث عنها؟ هل يمكن أن نوحد ثقافتنا مرة أخرى على ثقافة موحدة نجتمع تحتها كالمظلة ضد عاصفة الغزو الثقافي التي تفتك بنا؟

إن لم نكن مستعدين لمواجهة أزمة الثقافة فنحن غير مستعدين لمواجهة أزمة المجتمع وكما قلت سابقا إن المجتمع الذي لا يحقق التناغم والتوافق على الجاببين المادي والمعنوي هو مجتمع بلا فائدة ترجع على أفراده. ومحتوم عليه التشرذم والانقسام.

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.