مقالاتفن وأدب - مقالات

العجوز صاحب الوجه الفريد – الجزء الثاني

مرت الأيام بازدحام كعادتها، أخبار و أخبار ثم المزيد من الأخبار.

إنها وظيفة مرهقة، ولكني أحبها برغم ما تستنفذ ما بداخلي من طاقة، ولربما أُفنِي حياتي لأجلها وأنا غير متضرر أبدًا.

تناولت جريدة تابعة لأحد المنافسين، تعتبر من أضخم المنافسين لنا، لأرى ما تم نشره هذا اليوم، أخبار فنانين.. اممم… حسنًا، مهرجان السينما المعتاد أشرف على القدوم.

أخبار عن حركات سياسية واقتصادية عالمية، يا له من يوم ملئ بالأحداث.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

خبر الجريدة وصورة الرجل

وقع عيني على خبر وفاة أحد أعضاء الهيكل التنظيمي لشركة بترول ضخمة، لم يهمني كثيرًا التفاصيل التي ذكرت عنه وعن إنجازاته، ولكني تأكدت أنه بالتأكيد رجل مهم، فليرحمه الله، وهممت بالبحث عن خبر آخر لأتمم مسحي لأخبار تلك الجريدة ولكن حدث شئ غريب!

هناك إشارة ما في ذهني تضيئ، لا أفهم تحديدًا ما بي، ربما صورة الرجل المهم المرفقة في مقال العزاء، رجعت لأتفحص الصورة، وإذا بها الإشارة تزداد، يبدو أنني رأيت هذا الرجل من قبل ولكني لا أتذكر من هو، للأسف، بحكم عملي فأنا أقابل العديد من الأوجه يوميًا، لكني لم أذهب لأحرر أية أخبار عن شركات بترول مسبقًا، الأمر غريب!

أتممت عملية مسح الأخبار في الجريدة وأغلقتها، وقررت الذهاب لمكتب الأستاذ “خالد” لأناقش معه آخر المواضيع الهامة لنشرها مساء يوم الجمعة القادمة، ولكن الهاتف رَنَّ فجأة ليقطع حبل أفكاري ويضطرني للاستجابة، أخرجت الهاتف من جيبي لأجدها مدام “أمل”، تمهلت قليلاً لأتذكر من هي، الذاكرة تستغيث حقًا!

ولكن لحسن الحظ تذكرت، نعم دار المسنين التي ذهبت إليها الشهر الماضي، يبدو أنها تُنسق معي موعد هذا الشهر، هذه المرأة مجتهدة برغم ملامح اللامبالاة والضجر التي شهدتها على خطوط وجهها سابقًا، أجبتها وإذا بذاكرتي فعلاً لم تخنّي هذه المرة.

يا للهول، هذا موعد آخر تم إضافته إلى جدول هذا الأسبوع، ألا يوجد طريقة لزيادة ساعات اليوم لمن هم في مثل عملي؟! أشعر كل يوم أنني أحارب الوقت لأتمم هذا الكم الهائل من المهام.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

موعد دار المسنين

مر يوم من الصراع المستمر لإتمام مهام العمل وإذا به يوم الأربعاء وموعد دار المسنين، بالكاد تذكرت الطريق لهذه الدار العجيبة فأنا لم أذهب إليها إلا مرة واحدة، وقابلت مدام “أمل” وقادتني إلى مكتب المدير، ومررنا بالحديقة فتذكرت ذاك العجوز، ياللهول لقد نسيته تمامًا وسط مهام العمل المستمرة فتعاهدت أن أسأل عن أخباره وأزوره اليوم قبل المغادرة.

أنهيت روتين الزيارة، ثم سألت مدام “أمل” عنه، فلم تعرفه؛ فطبيعة عملها لا تحتك بالنزلاء، وأرشدتني إلى مكتب آنسة “ميرفت” المسؤولة عن ملفات النزلاء، وبالفعل ذهبت إليها ووصفت لها ملامح العجوز وهيئته وبضع معلومات عنه مما بقي في ذاكرتي فاندهشت وقالت: ” هذا الرجل يزداد غرابة يومًا بعد يوم، لن تصدق ما فعله ليلة أمس، لقد كان يومً عسيرًا عليه بالتأكيد”.

سألتها بلهفة ماذا تم ليلة أمس، فقالت: ” أحد العمال أدخل له العشاء كعادته ومشروب ساخن وجريدة، وبعد حوالي نصف ساعة سمعنا صراخًا عاليًا آتيًا من غرفته، فأسرعنا إليه فوجدناه في حالة إنهيار عصبي، والجريدة ملقاة على الأرض بجانب المشروب الذي انسكب هو أيضًا على الأرض، يبدو أنه تحرك فجأة بكرسيه المتحرك فاهتزت المنضدة ووقع ما عليها”

لقاء مع العجوز

طلبت منها رؤيته فوافقت، فذهبت مسرعًا لغرفته في الطابق الثالث كما شرحت لي، دققت الباب ودخلت بهدوء.

لم يتغير كثيرًا عما شاهدته مسبقًا، ولكن انكمش وقل وزنه بعض الشئ، صفحة وجهه كما هي منطبع عليها حالة من الخذلان والألم والدهشة، جسده مُمَدّد على الفراش في وضع الجلوس، ألقيت عليه التحية ودخلت أجلس في كرسي جانبه، فلم يجبنِي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

استكملت الكلام: ” هل تتذكرني؟! ، لقد رأيتك في الحديقة ذاك اليوم، وها أنا الآن هنا أريد أن أساعدك، فهلا تجاوبت معي لتخبرني أي شئ عنك؟!  أنا محرر بجريدة مسائية ويمكنني مساعدتك بشئ ما”

نظرته ثابتة على الأرض ولم يلتفت إليّ، نظرة غريبة مليئة بالحسرة، تتبعتها لأرى هل هناك شئ ما على الأرض أم هو هائم في عالم آخر؟! فإذا به ينظر إلى شئ ما على الأرض فعلاً، هممت لأستوضح ما هذا الشئ.

السبب وراء اضطراب العجوز

إنها جريدة مُلقاة على الأرض، يبدو أنها تلك التي حدثتني عنها آنسة “ميرفت”.

أمسكت بالجريدة وتفحصتها فوجدتها نفس الجريدة التي قرأتها أمس، جريدة المنافسين، مطوية على خبر وفاة ذاك الرجل المهم من أعضاء شركة البترول، نظرت إلى صورته مجددًا فعادت إليّ الإشارة الذهنية ثانية، مهلاً، لا يمكن أن أصدق، نظرت إلى وجه العجوز وأنا في حالة ذهول تام، لا يمكن أن أصدق، إنها صورته!

الإشارة الذهنية إذن كانت من ذاكرتي، إنها تنبهني إنه هو فعلاً ولكن فقط هو مهندم ومبتسم ووجهه مشرق في الصورة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كيف حدث ذلك، العجوز أصبح يُحملق فيّ بعدما أصابني الدهشة وأنا ممسك بالجريدة، كيف هو خبر وفاة شخص مازال حيًا أمامي! كيف يكون هذا المسكين الممدد على فراش في دار للمسنين هو نفسه ذاك الرجل المهم من أعضاء مجلس إدارة شركة عريقة للبترول! أنا لا أفهم شيئًا، هذا العجوز لغز غريب لا أستطيع حله، وهو لا ينطق بكلمة واحدة!

اقتربت منه وبيدي الجريدة مفتوحة على الصورة، اقتربت وكلي دهشة وفضول، وإذا به يبكي ويبدأ بالعويل والصراخ.

خرجت مسرعًا لكيلا ينهار مجددًا، يبدو أن الانهيار أمس كان بسبب رؤيته لصورته وخبر وفاته، أسرعت لأنادي أحد العمال ليبقى بجانبه وهو في تلك الحالة وخرجت من الدار وأنا أكاد لا أصدق ما رأيت!

تذكرت مقال الوفاة في الجريدة وأني لم أُعِره انتباه وقتها، وها هي الجريدة مازالت بيدي، فتحت لأقرأ المقال لأجد أن الشركة تنعي أسرة القيد الذي توفى بحادث سيارة، وأنه كان من أفضل أعضاء المجلس وذو فضل كبير لتأسيس هذه الشركة ونجاحها، وأن الحادث تم من حوالي أربعين يومًا، ولكنه كان يصارع في العناية المركزة طوال هذه المدة وانتهى الأمر باستسلامه للموت!

أنا لا أصدق، أيمكن أن يكون تشابه في الخلقة؟ وإن كان كذلك لماذا هلع العجوز هكذا إذًا ؟

وجه العجوز والصورة متطابقان!

هذا اللغز لابد أن أفهمه!

يُتبع..

اقرأ أيضا:

العجوز صاحب الوجه الفريد

الأحياء الأموات

مفترق طرق …. ما هو موقعنا في هذه الدنيا؟

هبة علي

محاضر بمركز بالعقل نبدأ وباحثة في علوم المنطق والفلسفة

مقالات ذات صلة