مقالات

التغير من السوبر ماما إلى مامي

لم يكن الأمر سهلا..

ماما : لم يكن الأمر سهلا كما كانت تحلم، هكذا هي الحياة تعطيك مزيجًا من بعض الأشياء التي تحبها وبعض الأشياء التي لا تطيقها، ويفضل البعض أن يعتقدوا بأن ليس لديهم اختيار. لم تعد تتذكر كيف بدأت تلك الدوامة التي تأخذها على غير هوادة في سرعة عالية نحو نهاية لم تعد تستطيع تخيلها، على عكس ما كانت تتصور بالحسابات المعقدة لكل قرار أنها هي المتحكمة في مصيرها. ربما لأنها راهنت على أنها ستفوز في سباق يتكشف لها مع الوقت صعوبته وعدم قدرتها على إنهائه

فها هي اليوم تعود من العمل مسرعة قبل عودة الأولاد من المدرسة الإنترناشونال  وزوجها من عمله لتحضر لهم الغذاء. تفرغ الطعام السريع “التيك أواي” من الأكياس الورقية وتقدمها في الأطباق على عجلة لكي تطعم عائلتها قبل أن ينشغلوا في عوالمهم الصغيرة المنفصلة. لم تعد حتى “طرابيزة السفرة” تحمل نفس القيمة أو المعنى كما في الأيام الخوالي، فهي مجرد واجهة لعرض البضاعة التي نجحوا في تبضِّعها هذا اليوم ليسرع كل عضو في هذا الفريق بأخذ حصته من تلك البضاعة ليتجه لزنزانته الفردية ليكمل جدوله اليومي!

السوبر ماما

تنتقل هنا بها الذاكرة لوالدتها، تلك ماماالحنونة التي كانت تغمرهم بالمشاعر الدافئة التي كانت تغلف الجدار القاسي البارد لمنزلهم ببطانة الألفة والحب التي كانت في قلوبهم أجمل من أشهى المأكولات في أفخم المطاعم التي يأكل فيها المرفهون. لم تكن والدتهم امرأة عادية، كانت مثل المحارب في كل الميادين، كان المنزل بالفعل هو مملكتها التي تستقر هي على عرشها في كل المواقع. لم تكن تسمح للغرباء بالتدخل في مملكتها على نحو لا تعلمه أو لا يرضيها

كانت الملكة ورئيس الوزراء ومجلس الوزارة في آن واحد. كانت على احتكاك بالطب في حالات المرض، وبالعلم في أيام الامتحانات والمذاكرة، وبالثقافة في أوقات الترفيه والمرح، وبالعلاقات الاجتماعية في أوقات العلاقات العامة والزيارات ومشاريع الزواج لأبنائها. كانت وزير الدفاع في حالات الغزو الثقافي غير المرغوب فيه الذي يحاول النيل من مملكتها، ووزير الداخلية في الشجارات والنزاعات التي تنشأ بين أعضاء مملكتها

كانت فعلا الـ “سوبر ماما ” لكن ليس بالمعنى المبتذل الذي تحاول أفلام هوليوود تصويره، ربما بصورة أقرب للمثل التي تكلم عنها أفلاطون. نعم، لقد كانت مصداقا للحب الأفلاطوني، كانت تحب عائلتها ومملكتها ذلك الحب الذي يجعلها تعطي بلا كلل ولا تتوقع المقابل، فالعطاء كان هو السعادة في ذاتها بالنسبة لها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الطفل الإنترناشونال

عاد بها وعيها للواقع بعد أن سرحت في جمال تلك الأيام، ها هي مع أحد أبنائها تستقل السيارة لتذهب معه في “الإنترفيو” لمدرسة الحضانة ” الإنترناشونال “. يرتدي ابنها زيًّا يشبه فيه الرجل الصغير، بربطة العنق الملتفة بإحكام حول عنقه الرقيق والسترة القاتمة والحذاء الأسود الذي يمشي فيه على خطى المستقبل الذي لم يختَرْه، بل يجب أن يسير فيه لأن هذه هي صورة النجاح التي يضعها العقل الجمعي في ذهن الآباء والأمهات هذه الأيام.

لم يأتِ هذا الاختيار ” الإنترناشونال ” سهلا أو رخيصا، لقد اضطرت للعمل هي وزوجها لتوفير المال لهذه المدارس الباهظة. وظائف جعلت وقتها مع أبنائها هو الشاذ والخارج عن المألوف، بينما الانسحاق في ساعات العمل الطويلة والمهمات الثقيلة هو الطبيعي، واليوم المكتظ بالمقابلات والاجتماعات هو اليوم المثمر، بينما الوقت الذي تمضيه مع أطفالها هو الوقت المهدور والضائع. لم تعد تحسب الدقائق باللذة والقيمة التي يمكن أن تشعرها أو تغرزها في عقول أو قلوب أطفالها، بل “بعدَّاد النقود” أو كما يقول المثل الغربي، وقد كان ممكنا لهذا الذهب أن يكون ذهبا معنويا يرقِّي الذهن والنفس، لا ذهبا ماديا يختزل الحياة في كيفية الحصول عليه ثم في كيفية صرفة للحصول عليه مرة أخرى!

ما الفرق بالنهاية؟

ومع كل هذه التضحيات بالوقت والمجهود من أجل “تعليم أفضل” أو هكذا تحب أن تعتقد، إلا أنها لا تجد في الأولاد الطفل “الأينشتاين” الذي سيغير الوجود بالمعادلة الرياضية المحكمة القصيرة. تعليمهم في النهاية “عادي” ليس “الإنترناشونال”، كم هي براقة تلك الشعارات التي تشعرك أن التحول سيكون سحريًّا دون أن تبذل مجهودا! تعود بها الذاكرة لأول مرة دخلت فيها المطبخ لتخبز أول كعكة مستعينة بوصفة والدتها، كم كانت تجربة فريدة تعلمت منها الكثير، ربما أكثر مما يتعلمه أولادها في مدارسهم  الإنترناشونال

كان لديها كل شيء: المقادير والطريقة والأجهزة الضرورية، لكنها لم تستطع أن تخرج الكعكة مثل والدتها على الرغم من أنها اتبعت كل التعليمات، أو هكذا ظنت. تعلمت في ذلك اليوم أنك أنت من تصنع الواقع لا العكس، قد تكون في أفضل الأماكن لكنك لا تعمل لكي تكون أفضل إنسان. وقد لا تكون محظوظا لهذه الدرجة، ولكنك تمتلك القلب المثابر والوعي الحاضر والذهن الثاقب فتكون المعجزة.

لم تنجح الكعكة هذه المرة أيضا

ها هي اليوم تعمل بجد واجتهاد، تتبع “الوصفة الاجتماعية لكعكة النجاح الأسري” لو جاز التعبير، ولكن النتائج لا تخرج مبهرة.لم تكن والدتها تهتم بالمظهر قدر الجوهر. كانت مدرستهم عادية وليست مدارس الإنترناشونال ولم تكن باهظة التكاليف، في المقابل لم تكن متطلبات الحياة عالية جدا على أسرتها. فكانت أمها تملك وقت الفراغ الكافي، فاستثمرته في ثمرة فؤادها وبؤرة اهتمامها “أسرتها”، لم تترك مهارة علمية تصقلها إلا وحاولت أن تنميها لكي تفيد بها أطفالها

لم تكن والدتها تحب الكيمياء فكانت تستعين بوالدهم في تلك الأمور لكي يشرحها لهم ثم تبسط لهم المعلومة بطرقها الفريدة الشيقة. لا زالت تتذكر طريقة ماما الحنونة البسيطة في الشرح التي كانت تفوق في أثرها طرق أكثر المدرسين حذاقة ومهارة. كان كل شيء عندها وسيلة للتعلم، كانت تنقل العلوم لأنشطة اليوم، للمطبخ، وللزرع الذي تعلمهم الاعتناء به في الشرفة أو “البلكونة”، وللطقس والمناخ في النشرة الاخبارية. فخرجت أولادها من مدرسة الأسرة بالعقل الواعي والثقافة الحقيقية قبل أن يتخرجوا من مدارسهم. لم تكن المدرسة إلا جهة توثيق واعتراف بمجهودات هذه البطلة المغوارة. كانت الدرجات العالية وشهادات التقدير اعتراف بأن الأم الحقيقية هي المعجزة الاجتماعية. هكذا تصورت أمها وهكذا تحب أن تبقى ذكراها في خيالها إلى الأبد.

ما الذي تريده أن يتذكرها به أولادها عندما يصلوا لعمرها اليوم؟ هل تريد أن تكون الـ”سوبر ماما” كما كانت أمها لها ولأخواتها. أم تريد أن تضحي بذلك كله من أجل “تحقيق الذات” لتملأ قالب ربما هي لا تعرف لماذا ينبغي عليها أن تملأه. غريزتها تقول لها أن تكون سفينة النجاة لأطفالها، ولكن لا شيء فطري يقول لها أن تتركهم لنحقق صورة المرأة المعاصرة الناجحة في مجالات العمل والإدارة والتسويق وخلافه، في مقابل إهمال أو التقصير في حق هؤلاء الصغار الذين بلا شك هم المستقبل الحقيقي لأسرتها ولوطنها

ربما اليوم وبعد خوض التجربة تستطيع أن تعترف أن أمها خدمت الوطن أكثر منها، فلقد كان منزلهم معسكرًا حيًّا نشيطًا لإعداد محاربي المستقبل. على عكس منازل حديثة في حاضرنا لا تتعدى كونها تقليدًا أعمًى لنموذج الأسرة الحديثة الذي يرونه على شاشات التلفاز ووسائل الإعلام الأخرى.

تتغير الأولويات بتغير ظروف الزمان والمكان، نعم لقد أعانها العمل على بلورة شخصيتها في مناح كثيرة، ودعم الاحتكاك بالزملاء في وظيفتها والتعرض للضغوط شخصيتها، فلم تعد تنهار بسهولة أمام التحديات. لذلك فهي لا ترى أن العمل سيء بالكلية. ربما اختصر عليها طرقات طويلة للتطور والنمو الذاتي وساعدها على أن تكون الشخصية التي هي عليها اليوم. لكن ثلاث نقاط يؤرقونها كلما فكرت في ذلك الموضوع: فإن هذا الضغط المستمر بشكل يومي يستنزف منها رقتها وعذوبتها يوما بعد يوم

نعم لقد صقل شخصيتها وقوى عزيمتها لكن فاتها الكثير من اللحظات الرقيقة التي تغذي وجدانها كامرأة. الأمر الثاني هو صورة الـ “سوبر ماما ” أو والدتها التي وإن لم تكن قد تعرضت لتلك الضغوط إلا أنها وبكفاءة أعلى كانت تستطيع أن تعمل تحت الضغوط المنزلية وتحقق مهمات كثيرة في وقت محدود. الأمر الأخير هو تضخم الملفات أمام عينيها في السنين الأخيرة. فهي كالمسحوب بشدة بين عربتين تجرهما خيول جامحة

أحد تلك العربات يقودها رئيس العمل، ذلك الرأسمالي الثري الذي يريد أن يستنزف كل قطرة طاقة من موظفيه لتتعاظم ثرواته وتزيد مكاسبه، في عالم النقود القاسي لم يعد ينتبه للأزهار والورود الرقيقة التي يدهس عليها بلا رحمة وهو في طريقة لصيد فريسته الثمينة. وفي الناحية الأخرى إنها العربة التي تحمل أسرتها يقودها زوجها الحنون الذي وإن كان لا يريد أن يقسو على مشاعرها ويطلب منها التفرغ لمعركة المستقبل إلا أنه يشتاق لوزيرته الحكيمة التي ستساعده على الخروج من الأزمات التي تمر بها المملكة بذكائها وفطنتها.

كل عربة تمثل شركة أو مشروع، كلاهما عمل وكلاهما ضغط وكلاهما تكامل، فلقد كذَبت وسائل الإعلام حين شبهت الأسرة بالقهر والعمل بالتحرر، فكلاهما عمل وتوتر، مع اختلاف الغاية في كل منهما. ها هي اليوم تقف أمام مكتب المدير، تمسك في إحدى يديها ملفات العمل، وفي اليد الأخرى ورقة استقالتها أو استقلالها كما تحب أن تراها في مخيلتها، ولا يبقى لها إلا أن تختار، من الذي يستحق منها التضحية الحقيقية؟

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.