مقالاتفن وأدب - مقالات

الشعر والعِلم

وضَعْنَا العِلمَ في مواجهةِ الشعر ، وانتَهَيْنَا إلى أن العِلمَ هو الأفضل، وأن الشعرَ ينبغي أن يرجِعَ إلى العصورِ القديمةِ التي جاءَ مِنها، وهذا خطأ، فالعِلمُ لا ينبغي وضْعُهُ في مواجهةِ الشعر ، أو الأدب، أو الفنون، فهذا يَضرُّ العِلمَ نفسَه ولا ينصرُه، وهو يَختزِلُ الإنسانَ في بُعدٍ مِن أبعادِه، ويُحطِّمُ بالتالي عبقريتَه، وتَفَرُّدَه في الوجود.

كلاهما ضروريٌّ

العِلمُ لا يَعني أبدًا تخليصَ البَشريةِ مِن بربريتِها، بل يمكِنُ أن يزيدَهَا، والشعرُ مهما كان جامحًا لا يستبعِدُ المَنطقيَ أبدًا، فكلُّ قصيدةٍ تحمِلُ قدْرًا مِن العقلانيةِ مهما بالغتْ في الاعتمادِ على الخَيَال. لكننا نرفضُ منطقَ إمَّا الشعر وإمَّا العِلم، فكلاهما ضروريٌّ للإنسان، فكرةُ (إمَّا / أو) فكرةٌ بائِسةٌ ولا منطقية بالأساس.

إنَّ العِلمَ مجردُ فرْعٍ مِن فروعِ المعرفة، وهو لا يحلُّ كلَّ المشكلاتِ الإنسانيةِ مهما بَلَغَ، والناسُ لا يَستطيعونَ الاستغناءَ عن العِلمِ، لكنهم أيضًا لا يَستطيعونَ الحياةَ بشكلٍ عِلمي وكأن الحياةَ مَعْمَل، أو كأنهم أجهزةُ كمبيوتر، وأكبرُ العلماءِ لا يستطيعُ العيشَ بيْنَ أُسرَتِه كما يعيشُ في مَعمَلِه أو مَكتبِه، والعالِمُ يَعلَمُ أن الشمسَ لا تُشرِق، لأن الأرضَ هي التي تدورُ حولَ الشمس، لكنه يتعامَلُ في حياتِه مع الشمسِ على أنها تُشرِقُ وتَغرُبُ،

فالإنسانُ يبقَى في النهايةِ كائنًا مِن دَمٍ ولحمٍ، ولُغزًا يتجاوَزُ حدودَه الماديةَ والمعروفةَ، كائنًا فريدًا فيه النظامُ المتقَنُ وفيه النشَازُ الذي يَمنَحُه القدرةَ على الإبداع، الإنسانُ عاطفةٌ وخَيَالٌ وإحساسٌ وحَدَس، وكائنٌ رمزي يقومُ على الوعي واللا وعي أيضًا، يتلازِمُ فيه المنطقي مع الأسطوري والجنوني، يمكِنُ أن يكونَ موضوعيًا ويُحَلِّق باتجاهِ العِلم، لكنه لا يستطيعُ إلا أن يكونَ ذاتيًا أيضًا ويُحَلِّق باتجاهِ الشعرِ والفنِ عمومًا.

لا تقتصر الطاقة الشعرية على الشعر

العِلمُ بمعناه الحديثِ مجردُ وافِدٍ جديدٍ على التاريخِ الإنساني، لقد عاشَ الإنسانُ طويلا معتمِدًا على طاقتِه الشعرية، فهي التي تعلِّمُه كيف يعيشُ، وكيف يحافظ على منظومة القيم، وسلطة الضمير، والسعي الدائم نحو الخصوبة، وهي التي تُعَلِّمُه الآنَ كيف يوجِّهُ العِلمَ نحوَ علاجِ الأمراضِ مَثَلا، وحماية الإنسان من أشباح المجاعات، وهي التي تحذره من المساهمة في صُنْعِ القنابلِ النوويةِ -وأخواتها- واستخدامِها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لا تقتصر الطاقة الشعرية على الشعر، بل تتجلى في كل بيان، لكننا نلصقها بالشعر لأن اللغة ميزة الحضارة الإنسانية، ولأنه في متناول الجميع، ولأنه الآن أكثر الفنون تعرضا للتهميش.

لا نريدُ التقليلَ مِن شأنِ العِلمِ في لحظةٍ نحن أحوَجُ ما نكونُ فيها للعِلم، بقدْرِ ما نريدُ التأكيدَ على الشعرِ بوصفِه حاجةً إنسانيةً جوهرية، سوف يصبِحُ الإنسانُ شيئًا في طَيِّ النسيانِ إنْ أدارَ لها ظهْرَه.

وفي تقديرِنَا لن يتمكَّنَ الإنسانُ مِن ذلك، مهما كانت الصورةُ التي نطالِعُهَا الآنَ مُعَاديةً للشعر، ومنفَتِحَةً بتهورٍ بالِغٍ على الجانِبِ المادي للحياة، فالإنسانُ روحٌ، والشعرُ رمزُ الروحِ وموضعُ سطوعِهَا الجليل. وسوفَ تُفلِتُ الروحُ الإنسانيةُ على الدوامِ مِن كلِّ سجنٍ يمكِنُ حَشْرُهَا فيه.

اقرأ أيضاً:

ميزان العلم 

الناقد والمبدع والحرب الباردة

هل يصلي العلماء

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

فتحي عبد السميع

شاعر وناقد وباحث في العلوم الاجتماعية